تتراكم تكلفة الحرب الغاشمة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة منذ سبعة أسابيع بصورة لم تحدث في أي من المواجهات السابقة بين الطرفين، الأمر الذي يضغط على الحكومة الإسرائيلية، ومن استعانت بهم من خبراء ماليين، بشأن العثور على مصادر لتمويل تلك الحرب، التي سيكون من بينها بالتأكيد سوق السندات، الداخلية والخارجية.
وبينما كان المفاوضون من الطرفين يتباحثون شروط الهدنة وتبادل الأسرى، وكانت القذائف تنهال على القطاع المحاصر، انشغل خبراء وزارة المالية الإسرائيلية في حساب تكلفة كل صاروخ اعتراضي، وكل طلعة جوية، وكل يوم غياب لجنود الاحتياط عن أعمالهم في الشركات الإسرائيلية.
ووفقاً لتقدير مبدئي أعدته وزارة المالية، تُكلف الحرب حكومةَ الاحتلال نحو مليار شيكل، أي حوالى 270 مليون دولار، يومياً. ونقلت وكالة بلومبيرغ عن شركة "ليدر كابيتال ماركتس"، وهي شركة استشارات مالية في إسرائيل، تقديرها للتكلفة الكلية للحرب بنحو 180 مليار شيكل (48 مليار دولار) في 2023-2024.
وقالت الشركة إنّ من المرجح أن تتحمل حكومة الاحتلال ثلثي التكاليف الإجمالية، بينما تدفع الولايات المتحدة الباقي.
وتشير الحسابات المالية لحكومة الاحتلال إلى أن الحكومة ستضطر إلى اقتراض مبالغ كبيرة لتغطية تكاليف أعنف صراع مسلح يخوضه الجيش الإسرائيلي منذ نصف قرن. لكن المسؤولين عن إدارة الدين في حكومة الاحتلال يؤكدون قدرتهم على التعامل مع الديون البالغة 300 مليار دولار، ومع أخطارها، وفقاً لوكالة بلومبيرغ.
وقال يالي روتنبرغ، المحاسب العام بوزارة المالية، للوكالة، إنهم ماضون قدماً في السيناريو الأكثر توقعاً، الذي يشير إلى عدة أشهر من القتال، مع تجنيب مبالغ احتياطية. وزعم أنهم قادرون على تمويل الحرب حتى في سيناريوهات أكثر تطرفاً من القتال الحالي.
صدمة تشبه صدمة كوفيد-19
وتتصاعد التأثيرات المتسارعة على الاقتصاد الإسرائيلي، الذي اضطر للتحول إلى حالة الحرب في غضون أيام. وجاء ذلك بعد أن اجتاحت المقاومة الفلسطينية مستوطنات غلاف غزة رداً على اعتداءات الاحتلال المتكررة على المقدسات الفلسطينية بالضفة، ما أدى إلى شنّ جيش الاحتلال ضربات انتقامية، أعقبها اجتياح بري على غزة، وهو ما وصفته المؤسسات الدولية بـ"الإبادة الجماعية"، إذ سقط فيها ما يقارب 15 ألف شهيد حتى وقت كتابة هذا التقرير.
وعلى الرغم من أن حكومة الاحتلال أصدرت بالفعل سندات دولية بالين واليورو والدولار من خلال الاكتتابات الخاصة عبر بنوك وول ستريت، مثل مجموعة غولدمان ساكس، إلا أنها تعتمد على السوق المحلية لاستيعاب الجزء الأكبر من احتياجاتها التمويلية. وقالت بلومبيرغ إن وزارة المالية باعت بالفعل ما قيمته 18.7 مليار شيكل من السندات المحلية منذ 7 أكتوبر، مقارنة بمتوسط شهري يزيد قليلاً على 5 مليارات شيكل حتى سبتمبر/أيلول.
وتقدر وكالة موديز لخدمات المستثمرين إجمالي احتياجات الاقتراض الحكومية بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي هذا العام، ارتفاعاً من 5.7% في عام 2022.
وارتفعت أسعار الفائدة المحلية في الأراضي المحتلة بشكل أقل من العديد من الاقتصادات المتقدمة، ما أبقى الاقتراض الداخلي رخيصاً نسبياً للحكومة. وارتفع العائد على سندات الشيكل لأجل 10 سنوات منذ بدء الصراع، لكنه أغلق أمس الأربعاء عند 4.2%.
وبفضل التدخلات غير المسبوقة من قبل البنك المركزي، عوض الشيكل خسائره بعد بدء الحرب، حيث يُتداوَل الآن بالقرب من أقوى مستوياته مقابل الدولار منذ أغسطس/ آب.
وقال روتنبرغ: "بالنظر إلى الوضع قبل الحرب، سنجد أن الشيكل كان ضعيفاً نسبياً، وكان أداء أسواق رأس المال المحلية ضعيفاً أيضاً، ولربما توجد الآن فرصة استثمار تجذب الانتباه في الاقتصاد الإسرائيلي".
وبينما أجبر الصراع الحكومة على فتح الصنابير المالية، فقد سجلت عجزاً في الميزانية في أكتوبر يتجاوز سبعة أضعاف ما كان عليه قبل عام، حيث تبلغ الفجوة الآن 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن روتنبرغ يتوقع عجزاً تراكمياً في الميزانية يبلغ حوالى 9% خلال العامين المقبلين.
ورأت "بلومبيرغ إيكونوميكس" أنّ من غير المرجح أن تكون التكاليف المالية معجزة بالنسبة إلى حكومة الاحتلال، لكونها تمتلك 191 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، وهو ما اعتبرته كافياً لتمويل الحرب لمدة عامين تقريباً، بخلاف ما قد تتلقاه من مساعدات مالية من الولايات المتحدة. لكنّ اقتصاديي بلومبيرغ توقعوا أن ما سينهي الحرب لن يكون التكاليف الاقتصادية أو مصادر تمويلها، بل الضغط المحلي والدولي، وأيضاً المعطيات في ساحة المعركة.
وطرح بتسلئيل سموتريش، وزير المالية بحكومة الاحتلال، ميزانية معدلة للفترة الباقية من عام 2023، تظهر زيادة في الإنفاق قدرها 35 مليار شيكل، توقع تمويلها إلى حد كبير من خلال الديون. وسيتعين على الحكومة في ذات الوقت تعويض ما يقدر بنحو 15 مليار شيكل من الإيرادات المفقودة في عام 2023، وأيضاً إعادة ملء صندوق التعويضات الضريبية الحكومي الذي أُفرِغ من 18 مليار شيكل لدفع النفقات بعد اندلاع الحرب، في عام 2024.
ووفقاً للميزانية المعدلة، يمثل إصدار السندات في الداخل أكثر من 80% من إجمالي السندات المصدرة، ما يحمي إسرائيل من تقلبات الاستثمار الأجنبي.
الاقتراض من الخارج
يواجه الاحتلال سوقاً أقل ترحيباً في الخارج، حيث تضاعفت تقريباً تكلفة تأمين السندات السيادية الإسرائيلية ضد العجز عن السداد منذ بدء الحرب.
وتتواصل حالياً الحكومة الإسرائيلية، ومن استعانت بهم من خبراء، مع وكالات التصنيف وكذلك صناع السوق الأجنبية والمحلية، من خلال توفير بيانات محدثة وشرح للتطورات الاقتصادية فور ظهورها. كذلك فإنها تحاول تسهيل التدفقات القادمة إلى صناعة التكنولوجيا الفائقة، من خلال التحدث إلى المستثمرين المحتملين والشركات التي تسعى للحصول على رأس المال.
وبعيداً عن الاعتماد على الدين المحلي منذ بدء المواجهات العسكرية، فقد استخدمت الحكومة أيضاً كياناً مسجلاً في الولايات المتحدة، تابعاً لوزارة المالية الإسرائيلية، وباعت رقماً قياسياً شهرياً يزيد على مليار دولار من السندات التي اشتراها أنصار حكومة الاحتلال في أميركا.
وبالإضافة إلى ذلك، اقترضت البلاد من الخارج، من خلال صفقات جرى التفاوض عليها بشكل خاص لتتجنب تدقيق الأسواق العامة، ما بلغ مجموعه 5.4 مليارات دولار، منذ بدء الحرب.
وقال روتنبرغ إن عمليات طرح السندات الدولية الأخيرة التي قامت بها إسرائيل كانت لمستثمرين مؤسسيين كبار "الذين يؤمنون حقاً بإسرائيل، حتى في حالة الحرب". وأضاف: "هذه رسالة قوية يرسلونها".
وأدى الضغط المفاجئ على الموارد المالية لحكومة الاحتلال إلى وضعها في دائرة الضوء من قبل أكبر ثلاث شركات تصنيف، التي خفضت جميعها التوقعات إلى سلبية في الأسابيع التي تلت بدء الحرب. لكن الحكومة تجنبت حتى الآن ما قد يكون أول خفض لتصنيفها الائتماني على الإطلاق.