حكايات مؤلمة حول الغلاء والفقر في مصر

حكايات مؤلمة حول الغلاء والفقر في مصر

20 يونيو 2022
موجات ارتفاع الأسعار لا تتوقف (Getty)
+ الخط -

بعد لحظات من التفكير على مفترقات سوق التعاون بشارع الأهرامات بالجيزة، هرولت السيدة فجأة، تجاه بائعة الخضار، ومدت يدها لتلتقط حبات من البامية، ثم أعادت حساباتها، لتعيد ما التقطته إلى مكانه، وتتجه إلى ناحية أخرى، كي تأخذ حزمة من الملوخية، رخيصة الثمن.
دفعت المواطنة المصرية سامية السيد 10 جنيهات لنصف كيلوغرام ملوخية، وهي تدقق في ما تبقى من مصروف البيت، قبل أن تسعى من جديد، بين أروقة السوق لتستكمل مشترياتها، مستهدفة إعداد وجبة مناسبة لظروفهم وتكفي أسرتها الصغيرة، بما لا يزيد عن 60 جنيهاً.
فالسيدة التي تعمل بإدارة التربية والتعليم منذ ربع قرن، لا يتعدى دخلها الشهري مع راتب زوجها الموظف 5 آلاف جنيه (الدولار= نحو 18.76 جنيهاً)، تعد في عرف الحكومة والمصريين، من الأسر المتوسطة، التي لطالما حظيت بمكانة اجتماعية، مكنتها من الحصول على مؤهل عال، والتوظف في الدوائر الرسمية، والعيش بمنطقة عُدّت، منذ سنوات، ملاذاً للطبقة الوسطى العليا، من أساتذة الجامعات وكبار الموظفين والعاملين بالفنادق وشركات السياحة.
الآن عجت المنطقة بالباعة الجائلين، فارتضى السكان وجود سويقات شعبية في الشارع وبمداخل العمارات، بعدما اشتدت الأزمات بالجميع.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وأصبحت مختلف الطبقات تبحث عن السلع الرخيصة، التي يوفرها الفقراء القادمون من الأحياء الشعبية والمحافظات القريبة. يتعايش الجميع في ظل عشوائية طاغية، على مضض، فالحاجة دفعت كلّاً منهم إلى الآخر. تشرح سامية السيد، أسباب ترددها في الشراء، بأن الميزانية التي تشمل كل دخل الأسرة، لم تعد تكفي حاجتهم الأساسية، وأصبحت مهمة اختيار عناصر الوجبة الرئيسية مشكلة كبيرة، فترددت أمام دفع مبلغ لا يمكنها تجاوزه، وسلع ارتفعت أسعارها بشكل مخيف.
توضح المواطنة المصرية أنّ أسعار الخضروات انخفضت خلال الأسبوع الماضي، مع ارتفاع حرارة الجو، التي تجبر البائعين على خفض السعر، ليتخلصوا من المخزون اليومي، مع ذلك اختارت الملوخية، ليس لأنها أرخص من البامية فحسب، بل لأنها يمكن أن تطبخها مع قطعة صغيرة من اللحم، وكيلو من الأرز وطبق من سلطة الخضروات. وأضافت: "هذه الوجبة ستكلفني 100 جنيه، بزيادة 40 جنيهاً عن الميزانية المقدرة للغداء فقط، مع ذلك تظل أكلة البامية أعلى من تكلفة وجبة الملوخية بكثير".

وجبات الفقراء
وجبة المواطنة التي تنتمي للشريحة المتوسطة للدخل، التي تضم نحو 60% من السكان، كانت لوقت قريب، الوجبة الشعبية للفقراء، إذ يعيش 30%، من أصل 103 ملايين نسمة تحت خط الفقر، و4.5%، في فقر مدقع، وفقاً لتقارير رسمية، مع ذلك تعد الآن وجبة فاخرة، من الصعب توفيرها في ظل أوضاع دفعت الأسر المتوسطة، إلى أن تناضل يومياً من أجل تحمل أعباء الحياة الأساسية، مثل الغذاء والسكن والملابس.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

أصبح العلاج من وسائل الرفاهية والإنفاق على التعليم من العلامات الفارقة، التي تحدد المستوى الاجتماعي للأسر، في وقت اختفت فيه مجانية التعليم، ويواصل الجميع الدراسة عبر الدروس الخصوصية، ويدفع البعض نحو التعليم الخاص. وبات الغذاء يمثل أكبر حصة من نفقات الأسر المعيشية، مع ارتفاع أسعار مكونات الوجبات بصورة شبه يومية. فالغلاء يتزايد بمعدلات قياسية للشهر الرابع على التوالي.
سجل الجهاز المركزي للمحاسبات ارتفاعا في أسعار السلع والخدمات، بنحو 13.5% لشهر مايو/ أيار الماضي، بالنسبة لنفس الشهر من العام الماضي وبزيادة 9 % عن إبريل/ نيسان 2022. ارتفعت الزيوت والدهون 45.9%، والخبز والحبوب 41.7%، والخضروات، 33.5% والألبان والجبن والبيض، 24.5%. كما ارتفعت الملابس والأحذية 7.9%، والسكن 8.5%، والرحلات والخدمات الثقافية 54.1%.
تبحث الأسر عبر وسائط التواصل الاجتماعي، عن التخفيضات التي تقدمها مراكز تسوق حديثة، تحصل على البضائع من المنتج للمستهلك مباشرة، واعتادت بعض المحلات ربط تخفيضاتها، مع صرف الرواتب شهريا. يتابع بعضهم بقلق، استمرار حالة الحرب الروسية في أوكرانيا التي تحملها الحكومة المصرية توابع موجات الغلاء التي تشهدها البلاد، فلاحظوا انخفاضاً ملحوظاً في أسعار الزيوت والسكر والألبان عالمياً، وغلاءها محلياً.
أكد مؤشر منظمة الأغذية والزراعة الدولية "الفاو" الصادر في 3 يونيو/ حزيران الجاري، تراجع أسعار الزيوت والألبان، بنسبة 5.3%، وانخفاض السكر والقمح بمعدلات طفيفة، عن شهر إبريل/ نيسان لماضي، بينما تأتي الأنباء في مصر بما لا تشتهي الأنفس، فقد قفزت الأسعار في نفس الفترة، للخبز والحبوب، والزيوت وغيره.

عجز الريف عن توفير احتياجاته
ظاهرة غلاء الأسعار لم تعد تفرق بين المدن والقري، في بلد ما زال 65% من سكانه يعيشون في المناطق الريفية، وبعض مدنه لا تحسب على الحضر بالمعايير الدولية.
ولم يكن غريباً أن ترصد "العربي الجديد" نمواً في أعداد المراكز التجارية على طرقات مصر - إسكندرية الزراعي، والمنصورة، والعاشر من رمضان، لتصبح أسواقاً تجارية، يقبل عليها أهل القرى، والمناطق الصناعية، الباحثين عن العروض الرخيصة للأطعمة والمشروبات، بعدما أصبح الريف غير قادر على توفير احتياجات سكانه، لارتفاع تكاليف الزراعة وتربية الطيور والحيوانات وندرة الأرض الزراعية.

تستورد مصر نحو 98% من حاجاتها من الزيوت، و65% من الأغذية، واللحوم والأسماك، في وقت ارتفعت فيه الأسعار لمستويات غير مسبوقة منذ عام 1961، كما ذكرت تقارير "الفاو" الأسبوع الماضي.
أصبح المشهد ضبابياً، ليس في الداخل فحسب، بل أصاب العالم بأسره، منذ عام 2020، مع تداعيات وباء كورونا، وزاد حدة بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا.
تأثرت مصر بشدة باضطرابات أسعار الغذاء والبترول، ومع تراجع قيمة الجنيه ارتفعت أسعار العقارات والمأكولات والملابس والرحلات، بنسب تتراوح ما بين 30% إلى 54%.
وأدت قرارات للبنك المركزي، التي تستهدف الحفاظ على الدولار، بوقف الواردات من الخارج وقصرها على السلع الاستراتيجية للدولة إلى توقف آلاف المصانع لعدم قدرتها على توفير مدخلات الإنتاج، والعملة الصعبة، وعدم قدرة الشركات على العمل، في ظل تضخم متواصل بلا سقف.
ويلقي خبراء باللوم على الحكومة في تبديد ميزانية الدولة مع 145.5 مليار دولار قروضاً على مشروعات قومية، غير ضرورية، لا تحقق الأمن الغذائي والاجتماعي، الذي يحتاجه جميع المصريين.

التضخم يلتهم الدخول
يتوقع خبراء مال أن يتراوح التضخم ما بين 15% إلى 17%، نهاية العام الجاري، بينما يأمل صندوق النقد الدولي أن يتوقف عند 7.5%، عام 2022، ليرتفع إلى 11% عام 2023، وفي كلّ حال، هي نسب تلتهم العلاوات الاجتماعية التي قررتها الدولة للموظفين، من أمثال سامية السيد وزوجها، التي طبقتها الحكومة منذ إبريل الماضي.
صرفت وزارة المالية، بدل نقدي على الراتب الأساسي لجميع الموظفين يتراوح ما بين 8-15%، من الراتب، يبدأ من 100 إلى 400 جنيه. ورفعت الحكومة المعاشات التقاعدية، بنسبة 13%.
وأعلن المدير التنفيذي للبنك الدولي، ميرزا حسن، خلال اجتماعه مع أعضاء اللجنة الاقتصادية بمجلس الوزراء في القاهرة الأسبوع الماضي، أن البنك سيعمل على مساعدة مصر على بدء برنامج "فرصة" في أشد 8 محافظات فقرا، لتمكين الأسر شديدة العوز من الحياة، ودمجهم في سوق العمل، مع دعم برامج التنمية بمصر، للسنوات الخمس القادمة.
انتهت الاجتماعات دون تحديد لمبالغ مالية، ستقدمها مؤسسات التمويل الدولية، التي ساعدت مصر بـ 22 مليار دولار، على مدار 5 سنوات، لدعم اقتصاد يعاني من نقص حاد في النقد الأجنبي، وعجز دائم، بين الصادرات والواردات، سيرتفع إلى 45 مليار دولار، بعد إضافة 10 مليارات الشهر الحالي لتدبير فرق الزيادة بأسعار القمح والطاقة خلال العام الحالي.

تقليص الدعم رغم غلاء
تكافح الأسر المصرية للتعايش مع الغلاء المتصاعد، بينما ألغت وزارة التموين بطاقات الدعم عن مئات الآلاف من المصريين خلال الأيام الماضية. ادعت الوزارة أنها تسعى إلى تخفيف فاتورة الدعم الحكومي، عن شرائح اجتماعية قادرة على تحمل النفقات. تأتي تصرفات الحكومة مواكبة لتعليمات صندوق النقد، حيث تسعى إلى الحصول إلى قرض جديد منه بقيمة 3.5 مليارات دولار، لتوظيفه في مواجهة ارتفاع تكاليف استيراد القمح والطاقة.

تستورد مصر نحو 98% من حاجاتها من الزيوت، و65% من الأغذية، واللحوم والأسماك، في وقت ارتفعت فيه الأسعار لمستويات غير مسبوقة منذ عام 1961


وأكد مستشار وزير التموين عمر مدكور في تصريحات صحافية، أن حذف البطاقات، سيطبق على نحو 500 ألف من المصريين المسافرين للخارج، لأكثر من 3 أشهر متصلة، أو من يتجاوز راتبه 9600 جنيه (500 دولار)، ومن يملكون سيارة منذ عام 2015، أو يدفع أكثر من 20 ألف جنيه شهرياً لتعليم أولادهم بمدارس خاصة. هذه التصفية في قوائم مستحقي الدعم، الثالثة من نوعها على مدار 5 سنوات، بدأت بحذف ملاك السيارات ومرتفعي الرواتب، وتبعها تقليص لكميات السلع والخبز.
جاء القرار المباغت ليضيف أعباء على ملايين الأسر، التي لم يعد لديها خيار لمواجهة أعباء الحياة، إلا بطلب السفر، والعمل بأجور زهيدة في الخارج، وتعليم أبناءها بمدارس خاصة، مع تدهور التعليم العام، بينما تعمل الحكومة على رفع أسعار كافة الخدمات والسلع التي تنتجها، منذ فترة طويلة.
قررت الحكومة رفع أسعار مياه الشرب، بنسبة تتراوح ما بين 36% إلى 46%، اعتباراً من يوليو/ تموز المقبل. وتعهدت الحكومة بعدم رفع أسعار الكهرباء، للعام الثالث، في وقت تؤكد فيه تقارير وزارة الكهرباء، أن الكهرباء لا تحصل على أي دعم من الموازنة العامة منذ سنوات، وحسب تصريحات سابقة لوزير الكهرباء الدكتور محمد شاكر، ونظام الشرائح المطبق حالياً، فإنّ كبار المستهلكين يدفعون الفرق بين خسائر البيع للمستهلكين من الشرائح الدنيا والتكلفة الفعلية للإنتاج بشركات الكهرباء.
كما تخطط الحكومة لرفع أسعار الوقود، بعد رفعها سعر الغاز، مع استهلاك الشهر الجاري، بما دفع مواطنين إلى تبادل منشورات، عبر صفحات التواصل الاجتماعي يطالبون فيه رئيس الدولة، بأن يشاركهم في حل مشكلتهم في إدارة ميزانية الأسر.
كتبت سيدة مصرية وصفاً تفصيلياً بنفقاتها اليومية، في استغاثتها لرئاسة الجمهورية، تبين فيها أنّها زوجة تدير أسرة بسيطة لموظف ولديها طفلان. تنفق الأسرة 200 جنيه، على فاتورة الكهرباء، و100 جنيه للغاز و100 للمياه، وتنفق 70 جنيهاً تدبر بها 3 وجبات يومياً، ويحصل كلّ فرد على 5 جنيهات فقط كمصروف لليد، منهم رب الأسرة، و15 جنيهاً للمواصلات، بما يعادل 4800 جنيه، لا تقدر الأسرة على توفيرها شهرياً.
تلفت السيدة أنّه إذا توافر المبلغ، للصرف على أساسيات الحياة، فلا بديل آخر للصرف على التعليم، أو الملابس أو السكن أو "لا سمح الله للتنزه ودخول السينما". تنضم السيدة في طلبها إلى صوت ملايين المصريين، بأن ترحم السلطة الغلابة "لأننا تعبنا".

المساهمون