يثير تواصل غلق المعابر بين تونس وليبيا قلقا كبيرا حول مستقبل العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، في وقت تتصاعد فيه الأزمات الإقليمية في المحيط المغاربي وتنذر تصريحات رسمية متشنجة بعرقلة إعادة شريان الحياة للمبادلات التجارية والسماح بتدفق السلع والأفراد.
وخلال الأسبوع الماضي، توترت الأجواء السياسية بين تونس وجارتها الجنوبية عقب حديث أطراف سياسية تونسية عن إمكانية تسرب عناصر إرهابية إلى تونس من أجل تنفيذ عمليات انطلاقا من قاعدة "الوطية" في الغرب الليبي بهدف إرباك الوضع في البلاد عقب التدابير الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد ليل 25 يوليو/ تموز الماضي.
لكن الخارجية التونسية أعلنت رسميا في بيان لها عقب لقاء بين وزيري خارجية البلدين عن عدم وجود أي تهديدات إرهابية لتونس قادمة من ليبيا، مؤكدة أن تواصل غلق الحدود بين البلدين لأسباب صحية بحتة.
مصير العلاقات الاقتصادية
في المقابل، يتواصل انشغال مجتمع الأعمال في تونس وتجار المناطق الحدودية بمصير العلاقات الاقتصادية في غياب أي إعلان رسمي عن موعد إعادة فتح الحدود الذي يستمر منذ 11 يوليو الماضي، مخلفا خسائر لمؤسسات وتجار كانوا يؤسسون لعودة جديدة للتعاون الاقتصادي الثنائي.
وفي يوليو الماضي اتخذت السلطات الليبية قرارا أحاديا بغلق حدود بلادها بسبب تصاعد الأزمة الوبائية في تونس وتفشي متحور الدلتا، لتواصل تونس عقب تحسن الوضع الصحي تنفيذ ذات القرار بذات الدواعي.
ويقول الخبير والباحث المتخصص في الشأن الليبي، حمزة المؤدب، إن الأجواء الإقليمية المشحونة وتوتر الأجواء السياسية بين تونس وليبيا تضع إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي بين البلدين على المحك، مشيرا إلى أن تونس في قلب صراع إقليمي مغاربي يؤثر مباشرة على علاقاتها التجارية مع جيرنها جنوبا مع ليبيا وغربا مع الجزائر.
ويؤكد المؤدب في تصريح لـ"العربي الجديد" أن المناطق الحدودية في الجنوب التونسي كانت تنتظر "عودة الروح" إلى الحياة التجارية والاقتصادية هناك بعد خسائر كبيرة راكمها التجار في المنطقة التجارية المغاربية نتيجة تواتر غلق المعابر منذ عام 2011 وبدرجة أشد منذ 2015.
وأضاف الخبير الليبي أن المشهد الاجتماعي في الجنوب التونسي بات أكثر تأثرا من أي وقت مضى من اضطراب التجارة مع ليبيا التي تمثل أهم مصدر دخل للسكان هناك، مشيرا إلى تصاعد الهجرة غير المنتظمة نحو إيطاليا انطلاقا من سواحل الجنوب بسبب البطالة هناك.
وقال: "شباب تجارة الخط حوّلوا وجهتهم نحو الهجرة غير النظامية"، مؤكدا أن تواصل غلق الحدود يخلق ضغطا كبيرا على السلطات في البلدين بسبب تضرر سكان المناطق الحدودية من الغلق بما في ذلك تجار في الغرب الليبي.
وليبيا هي ثاني شريك اقتصادي لتونس بعد الاتحاد الأوروبي بحجم مبادلات تفوق 500 مليون دولارا، كما كانت تحويلات قرابة 150 ألف تونسي كانوا يشتغلون في ليبيا تبلغ قبل سنة 2010 نحو 60 مليون دينار تونسي في الشهر (الدولار = نحو 2.8 دينار).
وعمقت الأزمة الليبية على امتداد السنوات العشرة الماضية جراح الاقتصاد التونسي الذي يمر بصعوبات كبيرة جراء الاضطرابات الاجتماعية وتراجع السياحة والاستثمار.
خسائر تونسية كبيرة
وكشف تقرير حديث للبنك الدولي أن تونس تخسر نحو 800 مليون دولار سنويا كتأثير مباشر للأزمة الليبية بين استثمارات وصادرات، وشملت هذه الخسائر، وفقًا لدراسة أعدها البنك الدولي عن "تونس – ليبيا"، رقم معاملات المؤسسات التونسية المستثمرة في ليبيا والمصدرة والمؤسسات غير المرتبطة اقتصاديًا بصفة مباشرة مع ليبيا بسبب غياب مناخ الاستثمار على المستوى الإقليمي. وقبل التوتر السياسي الأخير بين البلدين وغلق الحدود في يوليو الماضي قادت منظمات الأعمال المشتركة جهودا كبيرا من أجل تنظيم تظاهرات اقتصادية وتجارية بهدف إعادة التعاون بين البلدين إلى مستويات ما قبل عام 2010.
كشف تقرير حديث للبنك الدولي أن تونس تخسر نحو 800 مليون دولار سنويا كتأثير مباشر للأزمة الليبية بين استثمارات وصادرات،
كذلك سمح البنك المركزي الليبي بتاريخ 17 أغسطس/ آب للمصارف باستلام مستندات الشحن البري الخاصة بالاعتمادات المستندية ذات المنشأ التونسي عن طريق منفذ رأس الجدير البري وجاء ذلك عقب اتفاق سابق بين سلطات البلدين على رفع الحواجز لتدفق الأشخاص والسلع والأموال بينهما.
وقال رئيس الحكومة الليبي عبد الحميد الدبيبة، في مايو/ أيار الماضي إبان زيارة رسمية لرئيس الحكومة المقال هشام المشيشي إلى طرابلس إن تونس ستكون شريكا مهما لليبيا في مرحلة إعادة الإعمار.
وأكد رئيس حكومة ليبيا أن مصير البلدين مشترك، وأن الحكومتين مطالبتان بالعمل على إزالة كل الحواجز أمام المستثمرين وتدفق السلع والأشخاص وتسهيل حركة الأموال والاعتمادات البنكية.
المدن الحدودية على صفيح ساخن
وخوفا من تداعيات توتر المناخ السياسي بين البلدين وتواصل غلق المعبر أنشأ تجار ومنظمات مهنية تشتغل على الوجهة الليبية مجموعات ضغط على فيسبوك للتأكيد على وحدة مصير البلدين الاقتصادي وبث رسائل طمأنة باقتراب عودة الحياة التجارية بين البلدين.
وقال رئيس مجلس الأعمال التونسي الليبي، عبد الحفيظ السكرافي، إن كل المساعي التي قادتها منظمات مهنية سابقا من أجل عودة العلاقات الاقتصادية بين تونس وليبيا مهددة بالانهيار في غياب مخاطب رسمي من الجانب التونسي يهتم بشؤون المستثمرين المهتمين بالتوجه نحو السوق الليبية.
وأكد السكرافي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن المدن الحدودية على صفيح ساخن بسبب تواصل غلق المعابير بين البلدين، مشيرا إلى أن أسبابا سياسية وراء هذا القرار.
وأضاف: "الوضع الاجتماعي يتأزم من يوم إلى أخر في مدينة بن قردان الحدودية"، معتبرا أن تواصل قطع شريان الحياة على الجنوب التونسي ينهك البلاد اقتصاديا واجتماعيا ويحرم ملايين التونسيين من الدخول ويؤثر على قطاعات الخدمات والاستثمار.
اتفاقات شعبية بين السلطات المحلية
وعام 2018 تسببت أزمة المعابر مع ليبيا وتواصل غلقها لأشهر في تحركات اجتماعية في المدن الحدودية حيث أدركت السلطة حينها ضرورة التخفيف من الضغوط على تلك المناطق فسمحت لمجموعات مدنية محدّدة الهدف وبلديات محلية بالانخراط في مبادرات شعبية وفي الدبلوماسية القائمة على التواصل بين الأشخاص على الأرض، ما أسفر عن اتفاقات حول التجارة الحدودية مع مراكز نفوذ محلية ليبية.
وأصبحت هذه الاتفاقات الشعبية التي أبرمتها السلطات المحلية ما بين البلدين في كل من بن قردان وزوارة فيما بينهما المعيار السائد.
ولكن نظرًا إلى هشاشة الوضع الأمني والخصومات بين الفصائل الليبية، فشلت هذه الاتفاقات في تأمين آليات مستدامة للتجارة تحتاج إليها الأراضي الحدودية الواقعة شرق تونس كي تتمكن من الصمود والاستمرار.
وعقب أيام قليلة من تسلّم سلطات ليبيا الرسمية لمهامها في مارس/ آذار الماضي، تشكل مشهد تجاري جديد في المناطق الحدودية التونسية التي تعيش أساسا من التجارة البينية مع ليبيا، بفرعيها الرسمي وغير الرسمي.
بدأت الحركة التجارية جنوب تونس تستعيد عافيتها مستفيدة من استقرار ليبيا ودخولها مرحلة المصالحة الشاملة، عقب مصادقة البرلمان على حكومة عبد الحميد الدبيبة، إذ سجلت مدينة بن قردان الحدودية، ولأول مرة منذ سنوات، نشاطا تجاريا غير مسبوق أنتج حركة سريعة في سوق الصرف الموازية وارتفاع الطلب على الدولار.
وقال رئيس المجلس البلدي بمدينة بن قردان، فتحي العبعاب حينها، إن المدينة الحدودية وباقي مدن الجنوب تعيش على وقع المصالحة الليبية، مؤكدا عودة النشاط التجاري في المنطقة إلى مستويات عالية لم تسجّل منذ ثورتي البلدين.