تراجع أسعار الغاز في أوروبا رغم موجة البرد واضطرابات البحر الأحمر

تراجع أسعار الغاز في أوروبا رغم موجة البرد واضطرابات البحر الأحمر... إشارات قوية على تجاوز كابوس الشتاء

23 يناير 2024
واردات أوروبا من الغاز انخفضت في ديسمبر الماضي للشهر السادس على التوالي (فرانس برس)
+ الخط -

اندفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا إلى الهبوط خلال الأيام الماضية، في اتجاه معاكس لتداعيات موجة البرد التي تجتاح معظم أنحاء البلاد وتغيير ناقلات الغاز العملاقة مساراتها بعيداً عن البحر الأحمر الذي يشهد توترات عسكرية، ما يلفت الانتباه إلى نجاحها في تجنب هذه الصدمات من خلال الاحتياطيات الضخمة التي راكمتها لعدم تكرار كابوس أزمة الإمدادات الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا قبل نحو عامين.

ورغم الاستقرار الذي تشهده أسواق الطاقة في أوروبا، إلا أنه قد يكون من المبكر القول إنها تخلصت تماماً من أزمة الطاقة وأصبحت من الماضي، إذ لا تزال بعض المنغصات حاضرة.

تستفيد أوروبا من جمعها احتياطيات قياسية من الغاز خلال العام الماضي، إلى جانب المساعدة من مصادر الطاقة المتجددة وشتاء معتدل نسبياً، بغض النظر عن بعض موجات البرد الحالية. ويتم تداول الأسعار الأوروبية القياسية حالياً عند أقل من 30 يورو (32.7 دولاراً)، لكل ميغاواط في الساعة (وحدة قياس أوروبية)، أي حوالي عُشر مستويات الأسعار التي وصلت إلى الذروة خلال 2022 عقب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط من ذلك العام.

ويأتي استقرار الأسعار أيضاً على الرغم من تراجع واردات أوروبا من الغاز الطبيعي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفق التقرير الشهري لمنتدى الدول المصدرة للغاز الصادر في يناير/ كانون الثاني الجاري، والذي اطلعت عليه "العربي الجديد".

فقد انخفضت واردات القارة الباردة من الغاز للشهر السادس على التوالي، لتسجل خلال الشهر الماضي 11.32 مليون طن، بانخفاض بلغت نسبته 17% أو ما يعادل 2.25 مليون طن عن الشهر نفسه من عام 2022. وتظهر بيانات التقرير الذي نشره المنتدى على موقعه الإلكتروني انخفاض واردات الغاز المسال في كل من فرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة وبلجيكا وليتوانيا، في حين زادت في ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في منطقة اليورو وهولندا.

وبلغت سعة التخزين في الاتحاد الأوروبي 83% في وقت سابق من يناير/ كانون الثاني الجاري، وفقا لهيئة الصناعة للبنية التحتية للغاز في أوروبا، وهو ثاني أعلى مستوى لهذا الوقت منذ عام 2011 على الأقل عندما تتوفر البيانات.

وأصبحت مستويات التخزين محط اهتمام التجار بعد الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا وبدأت في خفض إمدادات خطوط الأنابيب التي اعتمد عليها الاتحاد تاريخياً. وعلى الرغم من التحذيرات المستمرة من جانب وكالة الطاقة الدولية من أن أوروبا قد تجد صعوبة في تجديد مخزونها، فقد وجدت المنطقة نفسها في وضع مريح لفصول الشتاء المتعاقبة.

الأسعار تواصل الهبوط منذ بداية العام

قال بالينت كونكز، رئيس تداول الغاز في شركة "إم إي تي إنترناشونال" (MET International) في سويسرا، في تصريحات لوكالة بلومبيرغ الأميركية: "بمجرد النظر إلى الأسعار سيبدو أن الأزمة قد انتهت".

وانخفضت أسعار الغاز بنسبة 60% تقريباً في عام 2023، وواصلت الهبوط بنسبة 12% إضافية حتى الآن هذا العام، وهو ما من شأنه أن يساعد في خفض فواتير الطاقة للمستهلكين. وفي المملكة المتحدة، سينخفض الحد الأقصى للسعر الذي تنظمه الدولة بنسبة 14% تقريباً بحلول الربيع، وفقاً لتقديرات شركة استشارات الطاقة "كورنوال إنسايت" في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.

وقال كيم فوستير، رئيس أبحاث النفط والغاز الأوروبية لدى مجموعة "إتش إس بي سي" المصرفية: "هذا هو الشتاء الثاني الذي تشهده أوروبا بدون الغاز الروسي.. وهذا يساعد في تهدئة أعصاب المتداولين".

وجاء الاستقرار في الأسواق بدعم من تشييد أوروبا مشاريع الطاقة المتجددة، وهو ما يعني تضاؤل حصة الغاز في مزيج الطاقة في القارة، إذ ساعدت الزيادة في توربينات الرياح ومنشآت الطاقة الشمسية في تقليل الحاجة إلى الوقود، إلى جانب انتعاش الإنتاج النووي الفرنسي في العام الماضي.

تقلبات مفاجئة وتوترات

ورغم هذا الارتياح، إلا أن أسواق الطاقة الأوروبية لا تأمن جانب التقلبات المفاجئة والتوترات التي من شأنها إعادة الإمدادات إلى دائرة الأزمة. ويحذر كونكز من أن "الأسعار قد ترتفع مرة أخرى، حتى في موسم التدفئة هذا، إذا حدث انقطاع مفاجئ في الإمدادات أو فترة طويلة من الطقس البارد".

وأحد المخاطر الرئيسية التي يراقبها المسؤولون وتجار الطاقة هو الشرق الأوسط وسط المناوشات العسكرية التي يشهدها البحر الأحمر، إذ تتجنب ناقلات النفط والغاز المنطقة، وتختار بدلاً من ذلك الدوران حول الطرف الجنوبي لأفريقيا.

وجرى تغيير مسار جميع سفن الحاويات تقريباً بعيداً عن البحر الأحمر ومن ثم قناة السويس المصرية نحو الطريق الأطول حول رأس الرجاء الصالح منذ أن شنت الولايات المتحدة وبريطانيا اعتباراً من الخامس من يناير/ كانون الثاني الجاري ضربات على الحوثيين في اليمن، الذين وسعوا قائمة أهدافهم لتشمل السفن التجارية الأميركية والبريطانية رداً على الضربات ضدهم، بينما كانوا يركزون هجماتهم منذ منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على السفن الإسرائيلية وغيرها التي تبحر نحو إسرائيل.

وحساسية أوروبا تجاه التقلبات تعني أن هناك طريقاً طويلاً أمامها لتحقيق الاستقرار الكامل، إذ لا تزال هناك العديد من المطبات المحتملة، ومنها انتهاء اتفاق عبور خط أنابيب الغاز بين روسيا وأوكرانيا في نهاية هذا العام، ومن غير المرجح أن يتم تجديده، وهو ما يعني أن القارة يمكن أن تحصل على كميات أقل من الغاز من روسيا.

وفي حين أن هناك استثماراً عالمياً ضخماً في الغاز الطبيعي المسال أيضاً، فإن الكثير من القدرات الجديدة لن تصل إلى السوق حتى عامي 2025 و2026. كما أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة أكثر تواتراً، وهو ما يجهد أنظمة الطاقة ويؤدي في بعض الأحيان إلى زيادة الطلب على الغاز.

كما تسببت إضرابات في مواقع رئيسية لإنتاج الغاز الطبيعي المسال في أستراليا بانقطاعات في الإمدادات في الفترة الماضية. وقال ستيفان رول، رئيس سياسة الطاقة في وزارة الطاقة الألمانية، في قمة الطاقة للأميركتين في نيو أورليانز، يوم الخميس الماضي: "ما زلنا حذرين للغاية بشأن ما سيحدث".

واستوردت دول الاتحاد الأوروبي ما يقرب من 100 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال في عام 2023، بزيادة قدرها 5% عن المستوى القياسي المرتفع الذي سجلته في عام 2022، وفقا لشركة تحليل البيانات "كبلر".

تباطؤ الاقتصادات الكبرى

لكن حالة التباطؤ التي تشهدها الاقتصادات الكبرى، على رأسها ألمانيا، والتي يتوقع استمرارها للعام الجاري، 2024، تكبح الطلب على الغاز.

وقال توم مارزيك مانسر، رئيس تحليلات الغاز في هيئة أبحاث سوق الطاقة والكيميائيات المستقلة، لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية: "ظل استهلاك الغاز أقل بكثير من المستويات الطبيعية، إلى جانب إمدادات الغاز الطبيعي المسال الجيدة وخطوط الأنابيب، ما يعني أن احتياطيات التخزين أعلى بكثير من المعدل الطبيعي لهذا الوقت من العام للعام الثاني على التوالي".

وأضاف مانسر: "لا يساعد ذلك فقط في تجنب مخاطر أي صدمات في العرض أو الطلب خلال الفترة المتبقية من فصل الشتاء، ولكنه يعني أيضاً أنه سيكون هناك طلب إضافي أقل لإعادة ملء تلك الخزانات خلال الصيف المقبل". علاوة على ذلك، من غير المتوقع أن تستمر موجة البرد في جميع أنحاء أوروبا لفترة طويلة.

وإذا لم تشهد أوروبا طقساً شديد البرودة في بقية فصل الشتاء، فإن مخزونات الاتحاد الأوروبي يمكن أن تنتهي في شهر مارس/ آذار الذي يُنظر إليه على أنه نهاية موسم الغاز الشتوي بنسبة تراوح بين 50% و55% تقريباً.

ويشبه هذا الإجمالي المستويات القياسية المرتفعة التي شهدتها الكتلة في العام الماضي. ومع ذلك، يشعر بعض المتداولين بالقلق من أن السوق قد يشعر بالرضا عن النفس.

المساهمون