انظر كيف كذبوا على أنفسهم

انظر كيف كذبوا على أنفسهم

03 مايو 2023
السياسات الحكومية تسببت في تراكم الديون (الأناضول)
+ الخط -

في تصريح لا تجرؤ وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين حالياً على النطق به عن بلادها، ذكر مصطفي مدبولي، رئيس الوزراء المصري، أن الدولة المصرية لم يسبق أن أخفقت في سداد أي التزامات دولية عليها، مؤكداً أن ذلك لن يحدث مستقبلاً، "كونها تحترم كافة التزاماتها وهذا أحد ثوابت عقيدتها".

وفي السطر التالي لهذا الخبر، في نشرة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري التابع لمجلس الوزراء، لفت "العم مدبولي" إلى أن الدولة المصرية ماضية في تنفيذ برنامج الطروحات، مؤكداً أن هناك منظومة متكاملة للعمل على هذا الملف يديرها صندوق مصر السيادي، إلى جانب دور البنك المركزي المصري في تحضير مجموعة البنوك التي تم الإعلان عن طرحها.

وأشار رئيس الوزراء المهندس، الذي عمل مستشاراً للبنك الدولي في بعض الملفات، إلى أنه وفريقه يعملون على تذليل أي عقبات تعطل التنفيذ، معلناً في السياق ذاته عن تجهيز أكثر من 10 شركات أخرى، تابعة للقوات المسلحة، للطرح، من خلال البرنامج، بخلاف شركتي صافي ووطنية اللتين تم عرضهما للبيع من قبل.

لا أعرف نوعية البرامج التي استشار فيها البنك الدولي "العم مدبولي"، لكنها على الأرجح لم تكن قريبة من الاقتصاد أو المالية، في ضوء ما يمكن ملاحظته من عدم الربط بين الموضوعين السابقين في كلمات رئيس الوزراء. ولو تمهل الرجل قبل إطلاق كلماته الواثقة، لربما أدرك أن الخبر الثاني يشكك في دقة الخبر الأول، فضلاً عما يسببه من زعزعة ثقة المستثمرين والمُقرضين.

يقول الواقع على الأرض، والذي حاولت أكثر من مرة عدم التفكير فيه، إننا استيقظنا في أحد أيام شهر مارس/آذار من عام 2022 على خبر خروج أكثر من عشرين مليار دولار من الأموال الساخنة من البلاد، فاضطررنا للتضحية بنحو ثمانية مليارات دولار من احتياطي النقد الأجنبي في البلاد، كانت تمثل وقتها خمس ذلك الاحتياطي تقريباً، بينما هرعنا للحصول على مساعدات من دول الخليج "الشقيقة".

أودعت السعودية خمسة مليارات دولار في البنك المركزي المصري، واشترت الإمارات حصص الحكومة في عدد من الشركات المصرية، بما اقتربت قيمته من ملياري دولار، وارتفع سعر الدولار مقابل الجنيه، ولم تُحل الأزمة.

هرعنا كذلك إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، فتدلل علينا، وطلب ضمانات من الدول الخليجية، استغرقت عدة أشهر، قبل التوصل لاتفاق قبيل نهاية العام.

طرحنا سندات دولية للبيع، مرة ساموراي، وأخرى باندا، وبعدها صكوكا، ووافقنا على رفع سعر الدولار عدة مرات، بلغ إجماليها نحو 100% في غضون عام واحد، وألغينا أغلب الدعم الحكومي، ولم تحل الأزمة.

سعينا لجذب الأموال الساخنة من جديد، رغم تصريحات وزير المالية التي أكد فيها أننا "اتلسعنا من تلك الأموال ثلاث مرات، ولن نعتمد عليها مرة أخرى"، من خلال تخفيض الجنيه، والسماح بارتفاع الفائدة على أوراق الدين لأكثر من 20% (اقتربت حالياً من 24%)، إلا أننا لم نستقبل إلا النذر اليسير منها.

لم نتخلف عن سداد التزاماتنا بالفعل، ولكننا جددنا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ودائع لدول خليجية، هي السعودية والإمارات والكويت، اقتربت قيمتها من 15 مليار دولار، ثم جددنا ودائع غيرها في مارس/آذار الماضي، تخص الإمارات والكويت، بمبلغ يقدر بنحو سبعة مليارات، وما زلنا نعاني.

أقيل محافظ البنك المركزي من منصبه، وهو الحبيب ابن أخي الحبيب، وتوقفت قدرتنا على توفير العملة الصعبة، فتعطلت البضائع في الموانئ المصرية لعدة أشهر، وظهرت السوق السوداء بأشكالها المختلفة، واتسع الفارق بين أسعارها والسعر الرسمي للجنيه لأكثر من 15%، ومازال الدولار غائباً عن البلاد.

توالى إصدار الحكومة المصرية لأذون الخزانة الدولارية، و"حث" البنوك المحلية على شرائها، بمتوسط يقترب من مليار دولار كل شهر خلال الأشهر الستة الأخيرة على أقل تقدير، وسارع حاملو السندات المصرية الدولارية إلى التخلص منها في السوق الثانوية، لينخفض سعر بعضها تحت 50 سنتاً لكل دولار، وخفضت وكالات التصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية للحكومة والبنوك المصرية الكبرى.

استعان البنك المركزي بالبنوك العاملة في مصر لتوفير بعض الدولارات، من خلال ودائع العملاء المتاحة لهم، حتى وصل صافي العجز في الأصول الأجنبية للقطاع المصرفي لما يقرب من 23 مليار دولار. ومع وجود شبهات حول أخطاء/ تلاعبات محاسبية في تقييم ذلك المركز، ليظهر بأقل من حجمه الطبيعي، يبقى الرقم بقيمته المعلنة من أخطر الأرقام في الحالة المصرية الاقتصادية الحالية، حيث يلقي بكثير من الشك حول القيمة الحقيقية لاحتياطي النقد الأجنبي في البلاد.

تصالحنا مع قطر، وأفرجنا عن بعض مذيعي قناة الجزيرة، وانحنى كبير الدبلوماسيين لميكروفونها بعد إلقائه في الأرض بسنوات، فحصلنا على بضعة مليارات من الدولارات، بينما احتدت الأزمة.

تجددت فكرة تسليم تيران وصنافير للسعودية بعد اندثارها، وأعلنا نيتنا بيع أكثر من أربعين شركة ناجحة مُنتجة مُصَدِّرة رابحة، وأدخلنا ثلاثة من أفضل البنوك المصرية في القائمة، فلم يحنّ المستثمر الخليجي، وطلب مزيداً من الخفض للعملة المصرية، قبل أن تقرر صناديق الاستثمار التابعة له وقف المفاوضات والانصراف بأموالهم عنا!

لم تتخلف مصر بالفعل عن الوفاء بالتزاماتها، لكن مستها وأهلها البأساء والضراء، حتى قال السيسي والذين معه إنهم على ثقة أن "الله لن يتخلى عنا، ولا الدول الكبرى"، في إشارة إلى "غلب حمارهم"، وفقاً للتعبير المصري المعروف.

الحقيقة هذا وضع غير مستدام، ويمكن أن يثبت كذب توقعات مدبولي قريباً، إلا لو أغلقت مصر أبوابها عن الاستيراد تماماً، فلم تسمح به إلا في القمح والأدوية وأجهزة العلاج، ولم تسمح بسفر أبنائها إلا للدراسة أو العلاج (في حالات خاصة)، لمدة عامين على الأقل، وهو شرط بدا واضحاً أنه لا يلقى قبول أصحاب القرار، الأمر الذي يؤكد أن أسوأ أحوال البلاد لم يأت بعد.

المساهمون