الماء والطاقة والغذاء

08 ديسمبر 2022
لن تستطيع دولة عربية وحدها حل التحديات الأربعة التي تواجه حاجاتها الأساسية (الأناضول)
+ الخط -

دعا اقتصاديون كثيرون بعد هزّة النفط عام 74/1973 إلى وصف الطاقة (أو النفط آنذاك) بأنها عنصر الإنتاج الخامس. وقد نشر في ذلك العام كتاب من تأليف البروفسور جورجسكيو- رويجين، بعنوان "قانون الأنتروبي والعملية الاقتصادية".

وقد استعان فيه بقانونَيْ الديناميكا الحرارية، حيث يفترض أن مقدار الطاقة في الأرض ثابت، وأن استخدامها بشكل غير منتظم يُفضي إلى استخدامنا طاقة كثيره لننتج طاقة قليلة.

ولذلك، دعا رويجين إلى تنظيم استخدام الطاقة بأسلوب يجعل استخدام أي جزء منها ينتج طاقة أكبر من ذلك. وقد راج الكتاب بين الاقتصاديين، وتوقع البارزون منهم أن يفوز كاتبه بجائزة نوبل، ولكنه توفي قبل أن يحقق حُلمه، والآن بعد ما يقارب نصف قرن من نشر ذلك الكتاب، نعود لنواجه عالماً آخر، يكاد يكون نسخةً عما حدث مع النفط، ولكن النفط، أو الطاقة، لم يعد هو الحاكم، بل الماء. 

أضع هذه المقدمة النظرية أمام القراء لأحدّثهم عن مؤتمر المياه الرابع الذي عقد في جامعة الدول العربية، وبترتيب وحضور متميزين وبإدارة من السلطة الفلسطينية، التي حضر عنها وفد كبير، منهم نائب رئيس الوزراء وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير زياد أبو عمرو مندوباً عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وبحضور رئيس المؤتمر رئيس سلطة المياه المهندس مازن غنيم، ووزير الزراعة رياض عطاري.

موقف
التحديثات الحية

وقد عقدت أكثر من عشرين جلسة فنية، عدا عن جلسةٍ رفيعة المستوى، لتضع الإطار العام لحل أزمة المياه المستعجلة في الوطن العربي. وهناك إحصاءات كثيرة لو تأملت فيها "لولّيت منها فراراً ولملئت منها رعباً"، فثلاثة أرباع المياه الموجودة في الوطن العربي تأتي من دول خارج الوطن العربي (مياه النيل ودجلة والفرات)، وهناك مياه حبيسة ديكتاتورية إسرائيل المحتلة للضفة الغربية، والتي تسرق معظم مياهها السطحية والجوفية، وأخرى تقول إن الوطن العربي الذي يشكل 10% من اليابسة لا يتمتع بأكثر من 2% فقط من مياه الكرة الأرضية، وإن 12 دولة عربيه هي من بين الدول الـ15 الأفقر بالمياه في العالم، وإن توقعات المناخ تقلّل كثيراً في المستقبل من الأمطار الهاطلة على الوطن العربي. 

أمام هذه الحقائق، يثور السؤال: ما هي الوسيلة الأنجع للتصدّي لهذه المشكلة؟ طبعاً هناك جانبان. الأول زيادة الكميات المعروضة، والثاني حسن التدبير والاستخدام الراشد للمياه وتقليل الهدر، خصوصا في الزراعة التي تستهلك أكثر من 75% من المياه المتاحة في الوطن العربي. ولذلك، صار من الواضح أننا، سواء تحدّثنا عن رفد مصادر المياه ودعمها أو التدبير الحسن في استخداماتها، فإننا بحاجةٍ إلى نظرة متداخلة القطاعات.

وهذا يتطلّب تعاوناً عربياً يربط بين الطاقة والغذاء والمياه، فالطاقة مطلوبة لإنتاج مياه جديدة من البحار والبحيرات التي تطل عليها الدول العربية، عن طريق التحلية، ومطلوبة لتكرير المياه وإعادة استخدامها.

أما الجانب الثاني فيتطلب النظر إلى هذه القطاعات نظرة متداخلة المعارف والعلوم، فحلّ مشكلة المياه والرشاد في استخدامها يقتضي عملاً تربوياً اجتماعياً اقتصادياً تكنولوجياً. وقد قُدِمت في المؤتمر نماذج متميزة لتشجيع الناس على الاستخدام الذكي للمياه.

الأمر الثالث، ضرورة إدراك أن المياه قد أصبحت الآن سلعة دولية، سوف تباع وتشترى عبر الحدود بالجملة. ولربما تتطوّر الأمور ويصبح نقلها بناقلات ضخمة أمراً غير مستبعد، ما يؤدّي مستقبلاً إلى إيجاد بورصة مياه عالمية، مثل باقي السلع، كالنفط والحديد والنحاس والبلاتين والزنك.

موقف
التحديثات الحية

الأمر الرابع المهم، أن العرب يجب أن يقفوا صفاً متماسكاً للدفاع عن حقوقهم المائية العادلة في الأنهار، التي تنبع من دول أخرى. ويمكن في هذا الصدد إنشاء هيئات أنهر على غرار هيئة نهر الدانوب، حيث نظّمت الدول العشر المطلة عليه توزيع المياه، وتبني معايير استخدام تحول دون تلوّث النهر أو التأثير على نوعية المياه فيه. وبعد سنواتٍ من ضبط السلوك المائي، دَبَّت الحياة في هذا النهر الذي اعتبر ميتاً، وعادت إليه حياة الأسماك، وصار منفذاً تجارياً للسفن التي تمخر عبابه.

لن تستطيع دولة عربية وحدها حل التحديات الأربعة التي تواجه حاجاتنا الأساسية، وغياب العمل العربي الإقليمي والمتسق سيعني أن انكشافنا على العالم في مائنا وغذائنا ولربما طاقتنا، سيحول دون النمو المطلوب، أو احترام إنساننا العربي في هذه الحقوق الأساسية. ما نعاني منه من جوع وعطش ومرض وتدهور للبيئة يهددنا بالويلات والمزيد منها. آن لنا ان نتعلم ونعمل معاً.

وفي نهاية المقال، هناك كلمة حقّ يجب أن أقولها بصفتي كنت حاضراً المؤتمر، وهي أن تنظيم المؤتمر كان أفضل ما يمكن من حيث الأوراق المقدّمة، والجلسات النوعية العلمية، وحسن رفادة الضيوف واستقبالهم.

وقد أشرفت على هذا كله سلطة المياه الفلسطينية برئاسة الوزير مازن غنيم، والأشاوس من الفتيات والشباب الداعمين هذا العمل. إنجاز تشكر السلطة الفلسطينية على القيام به، رغم صعوبة الظروف حيال تنسيق حدثٍ كهذا من أرضٍ محتلة.

المساهمون