الليرة اللبنانية وفرصة موسم الاصطياف الضائعة

الليرة اللبنانية وفرصة موسم الاصطياف الضائعة

02 سبتمبر 2022
مسافرون عبر مطار بيروت الدولي (getty)
+ الخط -

تشير الأرقام الرسمية في لبنان إلى أن حركة المطار في بيروت سجّلت خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام عبور نحو 3.39 ملايين مسافر، مقارنة بـ2.05 مليون مسافر خلال الفترة المماثلة من العام الماضي. بمعنى آخر، شهد العام الحالي زيادة تجاوزت نسبتها الـ65% بين الفترتين، في دلالة واضحة على عودة انتعاش الحركة السياحية هذا العام. مع الإشارة إلى أن حركة المطار الكثيفة خلال العام الحالي، سجّلت أرقامًا قياسية لم يشهدها لبنان منذ دخول الأزمة المالية عام 2019، ما يعكس عودة حماسة المغتربين اللبنانيين لزيارة بلدهم الأم.

كل ما سبق ذكْره من المفترض أن يبشّر بتداعيات إيجابية على المستوى النقدي، بالنظر إلى التدفقات المالية التي ترِد إلى البلاد في العادة من الخارج بالعملة الصعبة، من الحركة السياحية. وهذه التدفّقات، التي وردت إلى لبنان خلال موسم الاصطياف الحالي، تُقدّر اليوم بنحو 3.5 مليارات دولار، أي ما يتجاوز الثلاثة أضعاف متوسط العجز التجاري الشهري هذه السنة.
لا، بل يمكننا القول إن قيمة هذه التدفقات الواردة، الناتجة عن موسم الاصطياف، فاقت حجم عجز ميزان المدفوعات، كما قدّره المصرف المركزي هذه السنة قبل بدء فصل الصيف الحالي، والذي لم يتجاوز حدود 2.57 مليار دولار. ولهذا السبب، كان من المتوقّع أن تسهم تدفقات العملة الصعبة الناتجة عن موسم الاصطياف في تلبية جزء واسع من الطلب على الدولار، المتأتي في العادة من الحاجة إلى تمويل الاستيراد.
مع كل هذه الظروف الإيجابية، لا يبدو أن الليرة اللبنانية قد تمكّنت من حصد ثمار الموسم السياحي كما يجب. إذ يتراوح سعر مبيع الدولار في السوق الموازية في بيروت اليوم عند مستويات تقارب مستوى الـ 34.000 ليرة للدولار الواحد، مقارنة بنحو 27.600 ليرة للدولار في أواخر شهر مايو/أيار الماضي، أي قبل بدء موسم الاصطياف، ومقارنة بـ 19.200 ليرة للدولار في الفترة المماثلة تمامًا من العام الماضي. وبذلك، يصبح من الواضح أن قيمة الليرة في السوق الموازية انخفضت بشكل ملحوظ بعد موسم الاصطياف، بخلاف الترجيحات التي توقّعت سابقًا أن يخفف هذا الموسم من الضغوط النقدية على العملة المحلية.
تتعدّد الأسباب التي أدت إلى تفويت فرصة موسم الاصطياف، وعدم قدرته على لعب دور إيجابي على مستوى الضغوط النقدية. فعلى مستوى السياسة النقدية، لم يتمكّن المصرف المركزي بعد من استيعاب حركة القطع في السوق الحر، من خلال وسيط منظّم وشفّاف وشرعي للتداول بالعملة الصعبة. ومنصة صيرفة، التي أنشأها المصرف للعب هذا الدور، تحوّلت إلى أداة لبيع الدولار بأسعار صرف مدعومة، لحلقة ضيقة من المستوردين. مع الإشارة إلى أن التفاوت بين سعر هذه المنصة وبين سعر السوق الموازية، يدفع تلقائيًّا عمليات بيع الدولار إلى الاتجاه نحو السوق الموازية ذات السعر الأعلى، ما يفقد المنصة القدرة على لعب دور الوسيط في عمليات التداول وتحديد سعر الصرف الفعلي.

وهكذا، تستمر السوق الموازية غير الشرعية في لعب دور الوسيط الفعلي الذي يحدد سعر الصرف بالنسبة للبنانيين. وهذه السوق، كما هو معلوم، لا تحكم عملياتها، أي آليات عمل شفافة، بل تهيمن عليها عمليات المضاربة السريعة، ومن قبل لاعبين كبار يتحكّمون في موازين العرض والطلب. وهكذا، ورغم تدفّق الدولارات إلى السوق خلال الصيف الراهن، لم تشهد السوق الموازية أي تحسّن يُذكر على مستوى سعر صرف الليرة، بالنظر إلى وجود عوامل أخرى تتحكّم في توازناتها.
أما فشل منصة صيرفة، التي كان من المفترض أن تستوعب عمليات السوق وتحدد سعر الصرف العائم والموحد، فيعود تحديدًا إلى عدم قدرة المصرف المركزي على الاستمرار في ضخ الدولارات اللازمة لضبط سعر الصرف فيها، وتأمين حاجة السوق من الدولارات عبرها. وهكذا، تقلّص نطاق عمليات المنصة تدريجيًّا ليقتصر على جزء محدود من السوق، وتوسّع الهامش بين سعر صرف المنصة وبين سعر صرف السوق الموازية.
السبب الآخر الذي منع موسم الاصطياف من لعب دور في ضبط سعر الصرف، تمثّل في بعض الإجراءات التي قام باتخاذها المصرف المركزي خلال موسم الاصطياف نفسه. فخلال الأسابيع الماضية، قرر المصرف المركزي تقليص نسبة الدولارات التي يقوم بتأمينها لمستوردي مادة البنزين عبر منصة صيرفة من 100% إلى 55% من قيمة المواد المستوردة، وذلك بشكل متدرّج. وبذلك، أحال المصرف نسبة وازنة من الطلب على الدولارات لاستيراد هذه المادة إلى السوق الموازية، وهو ما زاد من الضغط على سعر صرف الليرة فيها.
وبذلك، ساهمت زيادة الطلب على دولارات السوق الموازية، نتيجة هذه الإجراءات، في إبطال جزء من التداعيات الإيجابية التي كان من المفترض أن تنتج عن تدفق دولارات موسم الاصطياف إلى السوق الموازية. وتجدر الإشارة إلى أن كلفة تمويل استيراد البنزين خلال موسم الصيف بكامله تُقدّر بحدود الـ800 مليون دولار، وهو ما يجعل من هذا التحول مسألة مؤثّرة في توازنات السوق الموازية. ومن المعلوم أن مصرف لبنان كان قد أحال، في وقتٍ سابق، مستوردي المازوت أيضًا إلى السوق الموازية لتأمين الدولارات المطلوبة لاستيراد هذه المادة، ما بدأ منذ ذلك الوقت بتحميل السوق الموازية ضغط طلب هؤلاء المستوردين على الدولار.
وعلى المستوى العالمي، كانت هناك تطوّرات ساهمت في مفاقمة الضغط على سوق القطع المحلية في لبنان، وأبرزها ارتفاع أسعار المحروقات خلال العام الحالي، مقارنة بأسعار المحروقات خلال العامين الماضيين. وهذا التطور ساهم في زيادة الطلب على الدولارات المطلوبة لتمويل الاستيراد بشكل كبير، وهو ما انعكس في زيادة عجز الميزان التجاري بنسبة 42.7% في الأشهر السبعة الأولى من العام، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. كما ضغطت في الاتجاه نفسه الزيادة الكبيرة التي شهدتها أسعار المواد الأساسية، إبّان اندلاع النزاع في أوكرانيا.

بالتوازي مع كل هذه الضغوط النقدية التي شهدها لبنان خلال الأشهر الماضية، ساهم تعثّر تطبيق خطة التعافي المالي، وتأخّر لبنان في تنفيذ شروط التفاهم المعقود على مستوى الموظفين مع صندوق النقد، في زيادة مخاوف السوق من مآلات الوضع النقدي، وهو ما مثّل في حد ذاته سببًا من أسباب استمرار الضغط على قيمة الليرة اللبنانية. ففي الوقت الراهن، يلجأ الغالبية الساحقة من المقيمين إلى تفادي الاحتفاظ بأي مبالغ بالعملة المحلية، إلا في حدود حاجاتهم إلى الإنفاق، ما يعني من الناحية العملية استمرار الطلب على الدولار لمجرد انعدام الثقة في الليرة اللبنانية.
في خلاصة الأمر، من الصعب توقّع أي تحسّن إيجابي على المدى الطويل في ما يخص قيمة الليرة اللبنانية، بمعزل عن أي تطورات خارجية مواتية، إلا بعد استعادة الانتظام على مستوى سوق القطع والنظام النقدي ككل. وهذا الانتظام، شرطه الأول وجود رؤية نقدية واضحة لكيفية توحيد أسعار الصرف وتعويمها، بشكل مضبوط ومدروس، وضمن النظام المالي الرسمي، وبآليات عمل شفافة. وكي تتمكّن السلطة النقدية من تنفيذ هذه الرؤية، ينبغي أن تبدأ أولًا بمعالجة الخسائر المتراكمة في ميزانية المصرف المركزي، للتمكّن من استعادة قدرة النظام المصرفي على استقطاب التحويلات بالعملة الصعبة من الخارج، ما سيسهّل مهمة ضبط سعر الصرف خلال مرحلة التصحيح المالي.

المساهمون