بعيدًا عن الفقر العام في المكتبة الاقتصادية العربية، قليلة هي حدّ الندرة الأعمال التأسيسية التي تحاول تجاوز الجاري والعرضي إلى الراسخ والجوهري في الظواهر الاقتصادية العربية، وفي هذا الإطار تأتي محاولة الدكتور عمرو عادلي أستاذ مساعد العلوم السياسية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، والتي أتت بالإنكليزية ولم تُترجم بعد على أيّة حال، في كتابه "الرأسمالية المشقوقة: الأصول الاجتماعية لفشل تكوين السوق في مصر" Cleft Capitalism.. The Social Origins of Failed Market Making in Egypt، الصادر عن دار نشر جامعة ستانفورد عام 2020، وقد حصل بموجبِه المؤلف على جائزة روجر أوين لأفضل كتاب في التاريخ الاقتصادي لعام 2021 من رابطة دراسات الشرق الأوسط.
وكما يوضح عنوانه، يحاول الكتاب تفسير فشل بناء اقتصاد رأسمالي حديث قادر على النمو الذاتي في مصر رغم مرور ما يقرب من نصف قرن منذ بدأت تجربة الانفتاح الاقتصادي أواسط سبعينيات القرن الماضي، وهو السؤال الذي يدور بشأنه كثير من الجدل الأيديولوجي ما بين اليمين واليسار؛ بما يحيد أغلب الوقت عن هدف السؤال ويتجاهل جوهر قضيته، وهو الأسباب التفصيلية لفشل تكوين السوق الحرّة كطريق للتنمية في مصر.
ينطلق عادلي من رفض الاكتفاء التبسيطي بتلك التعميمات الأيديولوجية في رأيه، حتى ولو وافق على بعض تفصيلاتها، مُستشهدًا بما يراه كتجارب ووقائع لا توافق تعميمات أيّ من طرفي الجدل، فالتعميمات النيوليبرالية المُتمحورة حول المحاسيبية والفساد والسعي للريع كلها وُجدت في كل تجارب النمور الآسيوية تقريبًا، ولم يمنعها ذلك من تحقيق نجاحات تنموية مدهشة على الطريق الرأسمالية، كذا، وبالمثل، لا تفسّر الحتميات اليسارية عن طبيعة النظام العالمي وبنية التبعية الرأسمالية وطبيعة التنمية الطرفية الكامنتين فيه نفس هذه التجارب والنجاحات التي تمت في إطاره.
كان هذا أبرز ما ناقشه عادلي في أول فصلين من الكتاب، الذي يتكوّن من تسعة فصول وخاتمة، خصّص منها الأول والثاني لعرض المسألة ومناقشة الجدالات النظرية بشأنها وما يراه بها من قصور يستدعي البحث عن تفسيرات أخرى تنطلق من الواقع المعيّن ولا تكتفي بالتعميمات المُسبقة بشأن ما وصفه ساخرًا بانتقال ناجح لرأسمالية فاشلة، فيما ناقش في الثلاثة فصول التالية تفسيره الخاص، الذي أطلق عليه الرأسمالية المشقوقة Cleft Capitalism كبديل عن تفسير المحاسيبية الاختزالي في رأيه، ثم خصّص الفصلين السادس والسابع لتفصيل الممارسات المحاسيبية في قطاعي الائتمان والعقارات، بما لهما من أهمية خاصة في الاقتصاد المصري كأهم شكلين لتداول وتراكم رأس المال في مصر، وختم بفصلين لاستكشاف الطباع النوعية لما يراه الشكلين الأساسيين من الأشكال الفرعية الثلاثة المكوّنة للرأسمالية المصرية.
ويبدأ عادلي بمراجعة توصيف المشكلة، فهو لا يراها مجرد مشكلة فساد ومحاسيبية، بل ضعفاً عاماً في الاندماج بالسوق الرأسمالية، سواء على مستوى البلد بمُجمله ضمن تقسيم العمل الدولي، أو داخله من جهة حجم المشاركين المحليين الفاعلين في السوق الوطنية، والتي يرى انعكاسها التقني وجوهرها الحقيقي في ما يُعرف بـ"متلازمة الوسط المفقود"، أي محدودية نسبة المنشآت المتوسطة في الاقتصاد، مقابل سيادة عدة تكتلات احتكارية ضخمة وسط بحر من المنشآت الصغيرة والقزمية، دونما ترابط كافي في ما بينها بالطبع.
هذا التناول لا يقع في الخطأ المنهجي التقليدي لكثير من دراسات الاقتصاد البحت والاقتصاد السياسي، وهو التعامل مع الظاهرة الاقتصادية كظاهرة أحادية الوجه، فبينما يدرسها أغلب النيوكلاسيكيين والكينزيين التقليديين كظاهرة تقنية بحتة (خالية من اعتبارات القوة والمصالح)، يدرسها أغلب الماركسيين والنقديين كظاهرة اجتماعية صِرفة (مُفرّغة تقريبًا من أي محتوى اقتصادي موضوعي)، فيما هي مركب من الوجهين في ذات الوقت، ينعكس كل منهما في الآخر، كوجهين لجوهر واحد؛ بما ينجو بالمعالجة من السقوط في خطأي الإيهام التقني والاختزال التسييسي، اللذين يمثلان وجهين لخطأ منهجي واحد يفترض في تحليله الأخير الانفصال بين الاقتصاد والسياسة.
فهناك وجه تقني إذن لرأسمالية عادلي المشقوقة هو ضعف الاندماج بالسوق مُنعكسًا في متلازمة الوسط المفقود، لكن اقتصار التناول على المعالجة المؤسسية يعطي انطباعاً خاطئاً بكونه قد سقط في خطأ الاختزال التسييسي في مراحل التحليل اللاحقة لأسباب المتلازمة نفسها، حيث فسّرها بطبيعة البناء المؤسسي المصري المسيطر على توزيع الائتمان والأرض كـ "نادٍ مغلق" لرأسمالية المحاسيب، وهو قول ليس خاطئاً في ذاته، لكنه لا يولي الاعتبار التقني حق قدره، مُتمثلاً في حالة الركود الهيكلي المهيمنة على الاقتصاد المصري منذ نصف قرن كاقتصاد تابع تكلّست صناعته التحويلية في مرحلة الصناعات الاستهلاكية الخفيفة، والانحراف الريعي المُعزِّز لهيمنة الأنشطة الريعية المالية والتجارية والعقارية؛ بطبيعتها المُضادة لنمو التصنيع المحلي والميّالة للاحتكار المحاسيبي والارتباط بالخارج أكثر من التشابك مع الداخل.
والواقع أن الوسط المفقود بحد ذاته ليس وليد المحاسيبية الفجّة التي أنتجتها مرحلة الانفتاح الاقتصادي منذ أواسط السبعينيات، فالواقع أنه إحدى سمات الرأسمالية المصرية منذ نشأتها الأولى مع أولى طفرات التصنيع الحديث في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث نشأت بتركيب احتكاري مبكر للغاية، يسبق بكثير مستوى تطورها التقني؛ ما يعكس أحد أبرز اختلالات تكوينها، لهذا فتفسير عادلي يتعلّق في الحقيقة بأسباب استمرار هذه المتلازمة، وليس نشأتها نفسها. تناقش الثلاثة فصول الخاصة بالرأسمالية المشقوقة، كيف نتجت عن ضعف الاندماج بالسوق بالنسبة لغالبية اللاعبين، الناتج بدوره عن محدودية وصول تلك الأغلبية لرأس المال، أي الائتمان والأرض بشكل خاص؛ والتي يديمها إطار مؤسسي سياسي واجتماعي يستبعد القاعدة العريضة من مؤسسات القطاع الخاص والمنظمين، كما يحرم حتى القلة القادرة منها على النمو من تكوين روابط أمامية وخلفية بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة المحلية، والتي لعبت دوراً مهماً في تجارب الصين وشرق آسيا.
هذا الضعف في الاندماج هو سبب ونتيجة معاً لاستمرار فاعلية دوائر الاتصال الاجتماعية الذاتية المحكومة بالعلاقات الخاصة للاعبين على حساب دوائر الاتصال الاقتصادية الموضوعية القائمة على اعتبارات التبادل غير الشخصية، أي عدم التمايز بين الاقتصادي والاجتماعي في نطاق السوق وهيمنة القواعد والممارسات غير الرسمية على حساب الرسمية؛ وهو ما يقيّد التوسع والتشابك خارج تلك الدوائر الضيقة؛ فيضعف إمكانات التبادل والنمو ويديم حالة ضعف الاندماج ذاتها في حلقة خبيثة من التغذية المتبادلة.
لا عجب في تزاوج هذا الضعف في الاندماج، كسبب ونتيجة معاً، مع عدم التمايز بين نطاقات السياسة والاقتصاد والمجتمع، بما ساهم في -إدامة- تفكّك الرأسمالية المصرية، مُنتجًا ثلاثة أنظمة فرعية لها، الرأسمالية المحاسيبية للشركات الضخمة ذات الحظوة السلطوية حيث عدم التمايز بين السياسي والاقتصادي، والرأسمالية البلدية التي تمثّل كل المؤسسات الصغيرة والقزمية حيث عدم التمايز بين الاجتماعي والاقتصادي، وبينهما شريحة ضيقة من الرأسمالية "الشيك" متوسطة الحجم التي تتموضع كمّيًا وكيفيًا بين الاثنين، ووحدها تتمتع بقدر أكبر من التمايز بين الاقتصادي من ناحية والسياسي والاجتماعي من ناحية أخرى، وتمثّل النموذج الأقرب للمنظم رائد الأعمال المعروف في الاقتصادات المتقدمة.
وتحكم هذه الأنظمة الفرعية الثلاثة قواعد عمل مختلفة في ما يخص الوصول إلى المدخلات ورأس المال الأوّلي ومنافذ السوق، فضلاً عن طرائق التفاعل بينها وبين الدولة وفي ما بين بعضها البعض؛ ما فرض حدود وإمكانات نمو وتطور مختلفة على كل مجموعة منها، وإن مالت بوجه عام لمصلحة المكوّن المحاسيبي على حساب المكوّن البلدي؛ ما أدام الهيمنة الاحتكارية للأول، وأعاق نمو الثاني؛ فعمّق استمرار حالة الوسط المفقود المذكورة.
يعطينا هذا فكرة عن أحد أسباب إعادة إنتاج -من الجزئي إلى الكلي- حالة الركود العامة المهيمنة على الاقتصاد، ففي حلقة خبيثة من الجدل المتبادل، تضعف الهيمنة الاحتكارية للمكوّن المحاسيبي إمكانيات الدخول للأسواق المهيمن عليها وبروز منافسين جدد أكثر كفاءة، فضلاً عن ميل الاحتكار بحد ذاته لدفع نمو الأسعار بأكثر من نمو الإنتاج؛ وفي ظل محدودية السوق المحلي ومدى توسّعه لأسواق الخارج؛ تكون من المنطقي محدودية آفاق نمو المكوّن المحاسيبي ونمو الاقتصاد معه بوجه عام (أو عدم تحقيقه لكامل إمكانات نموه على الأقل)، فيما يضعف في ذات الوقت، باحتجازه إمكانيات وصول المكوّن البلدي لرؤوس الأموال والأسواق، وبضعف تشابكه الإنتاجي معه، آفاق نمو ذلك المكوّن أيضاً؛ ليفقد الاقتصاد بمجموعه إمكانات النمو الكامنة في المكوّنين على السواء، المحاسيبي والبلدي معًا.
هذه القيود لم يفرضها فقط الطابع الاحتكاري المذكور، بل عمّقها الطابع الهرمي والمركزي للمؤسسات المنظمة لرأس المال، أي الإدارة البيروقراطية المسيطرة على تخصيص رؤوس الأموال في السوق، مُتجسّدةً خصوصًا في النظام المصرفي وهيئات إدارة الأراضي العامة، والتي لا تنفصل بدورها عن عوامل تقنية، تتمثّل أساسًا في تخلّف الأسواق المالية وبالتالي ضعف دورها كوسيط تمويل لمصلحة هيمنة البنوك التجارية، كذا الأزمة المالية المزمنة التي تدفع الحكومة للتعامل مع الأراضي العامة بمنطق التاجر والسمسار (الهادف للربح مع استثناءات لمحاسيبه)، لا الفاعل التنموي (المعني بالرفاهية العامة طويلة الأجل).
ومما يعقّد الموقف ويديم ثنائية "المحاسيبية-الاستبعاد" هذه غياب مؤسسات الوساطة التي تستطيع من خلالها منشآت الرأسمالية البلدي التواصل مع المؤسسات العامة للتعبير عن مصالحها والوصول إلى مدخلات الإنتاج من أراضي وتقنية وعمل ماهر ..إلخ، الأمر الذي يتصل منطقيًا بمركزية وهرمية السلطة وأولويات الهيمنة السياسية للنظام الحاكم التي تستلزم تفكيك أيّة تكتلات اجتماعية أو مصلحية بعيدة عن قبضتها.
والواقع أن الكتاب مليء بالأفكار المثيرة للاهتمام مما لا يمكن تغطيته في هذه العُجالة، لكن بالمُجمل قدّم عادلي مساهمة قيّمة في جدل الاقتصاد السياسي للتنمية في مصر، مُستكملاً نفس الخط الفكري الذي بدأه سامر سليمان، في كتابه الشهير "النظام القوي والدولة الضعيفة" (دار ميريت، القاهرة، 2005م)، باستدخال النهج المؤسسي التاريخي، مع تعزيزه بعلم الاجتماع الاقتصادي، الأخ الشقيق للاقتصاد السياسي.
ويميّز العمل كذلك مدخله الوحدي أو الجزئي في تحليله لمنطق الاقتصاد المصري وبيئة عمل القطاع الخاص به، كذا استبطانه النقدي لمدخل "تنوّعات الرأسمالية" الذي لم يسبق تطبيقه على الواقع المصري في حدود علمنا، أما ما يُؤخذ عليه، فهو تجاهل البُعد الدولي ودور رأس المال التجاري في تسييد حالة ركودية تعوق الديناميكية الاقتصادية بعامة وتكبح نمو القطاعات الإنتاجية التي تعمل في معظمها المؤسسات المتوسطة، وإن كان من الممكن فهم تجاهل الأول على ضوء المساحة الذي استهدف الكتاب التركيز عليها، فضلاً عن الضجر المفهوم إلى حد ما من مبالغة نظريات التبعية اليسارية في دور "العامل الخارجي" كتفسير وحيد لعجز التنمية -ونجاجاتها كذلك- في العالم الثالث.
وتبقى نقطة ترجمة مصطلح Cleft كذلك كمسألة فنّية أهم مما تبدو عليه، ليس للمترجمين، بل للاقتصاديين، فترجمات كالمُهشّمة والمُفكّكة تغمط العمل حقه بوضعه ضمن أطروحات "التشوّه" غير مُحددة المعالم، التي تقيس التشوّه على النموذج التاريخي الأنكلوساكسوني، مقابل أطروحات "الطابع" التي تحاول وضع تصوّر نوعي أو تاريخي، يحاول فهم معطيات التجارب على ضوء واقعها النوعي المعيّن ومرحلتها التاريخية ومسارها التطوّري الخاص.
في النهاية، قدّم عادلي محاولة قيمة برؤية مغايرة تستحق أن تحظى بمزيد من القراءة والمناقشة، بدلاً من مؤامرة الصمت على قضايا التنمية العربية؛ لإبقائها رهينة شبكات المصالح المحلية المرتزقة من تحييدها، والخطاب النيوليبرالي ومنظماته الدولية، لتحرسه كما تحرس الثعالب الكروم!