الاقتصاد السياسي العالمي الجديد

الاقتصاد السياسي العالمي الجديد

04 ابريل 2024
اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء في الدخل والثروة في العالم الجديد (الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الأحداث في قطاع أو دولة معينة تؤثر بسرعة على العالم بأسره، مظهرة الترابط العالمي في الأزمات المالية والحروب التي تؤثر على الاقتصاد العالمي بدرجات متفاوتة.
- يتجه العالم نحو تفضيل العلاقات الثنائية والانكفاء نحو الداخل مع تزايد الميول الوطنية، مما يؤدي إلى تراجع التفاعل الإنساني والمساعدات بين الدول ويؤثر سلباً على التجارة وتوزيع الدخل العالمي.
- الهجرة والفوارق الاقتصادية تمثلان تحديات كبيرة، حيث تؤدي الحروب والتغيرات المناخية إلى موجات هجرة مستمرة، مسلطة الضوء على الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء ومنذرة بزيادة الاضطرابات.

قلة من لا يستشعرون آثار التطورات والمفاجآت والأحداث ومدى سرعتها ونفاذيتها من مكان إلى آخر، ومن قطاع إلى آخر، بغضّ النظر عن مكان الأصل لحدوثها، أو في أي قطاع من القطاعات وقعت.

ولقد تعلمنا من تجارب العقدين الماضيين أن الحدث الذي يجري في القطاع المالي والنقدي ينتقل سريعاً إلى القطاع الإنتاجي، وأدركنا أن ما يجري ليس في الولايات المتحدة أو الصين أو كليهما هو الذي يؤثر بباقي دول العالم ومناطقه فحسب، بل إن ذلك صار ينطبق على ما يجري في دول أقل تقدماً وأصغر حجماً كما رأينا في حرب أوكرانيا، أو الحرب على غزة، ولكن ندرك أيضاً أن حجم الأثر أقل.

والظاهرة الثانية أن الاقتصاد العالمي رغم سرعة انتقال الآثار فيه عبر الدول والقطاعات المختلفة، إلا أنه أقل ترابطاً. فقد بدأنا ندرك مثلاً أن الدول أميل إلى العلاقات الثنائية مع الدول الأخرى، وبخاصة التي تحقق معها فوائد مشتركة لكلا البلدين.

وواضح أن الميول الاجتماعية السياسية داخل الدول Socio-political trends قد أضحت أكثر انطوائية وأشد تعصباً وطنياً. وبتنا نعلم أن حجم التفاعل الإنساني بين الدول قد تراجع درجات عما كان عليه سابقاً. ومن الواضح أن هناك إجهاداً من المساعدات، وبخلاً في تقديمها، وانحيازاً واضحاً ضد المهاجرين.

هذه الانكفاءات سيكون لها أثر كبير على توزيع الدخل والثروة، وعلى سرعة تقلب أحجام التجارة والخدمات البينية بين الدول، وعلى اتجاهات التجارة.

والظاهرة الثالثة أن الكرة بدأت تعود لتنصف أصحاب الثروات الطبيعية في العالم. فمن الواضح أن الزيادة في أعداد السكان، وزيادة مساحة الطبقات المتوسطة، وخصوصاً في الدول كثيفة السكان سترفعان من حجم الطلب على الاستهلاك، ورفع مستوى المعيشة، والرغبة في السياحة، والإقبال على الترفيه.

موقف
التحديثات الحية

ولذلك سيكون الطلب المشتق في العالم على المواد الخام من المعادن، ومصادر الطاقة، في ارتفاع مستمر. وإذا بقي هذا الأمر صحيحاً لمدة عقدين أو أكثر من الزمان، فإن أسعار هذه السلع سترتفع، وسيكون ذلك من نصيب الدول التي تملك حظاً أوفر منها.

ولسوف يصاحب هذا التطور ربما زيادات واضحة في حجم الشركات الصناعية لهذه المواد الخام في الدول التي تملكها وارتباط الدولة المشترية مع الدولة البائعة بعقود بيع طويلة الأجل، كما هو حاصل حالياً في حالة الغاز (الوقود الأحفوري)، وكذلك الفوسفات للصناعات السمادية، وفي الزراعة التعاقدية التي يقوم فيها المزارعون في أراضي الدول الغنية بالمياه بالحصول على عقود شراء طويلة الأجل بأسعار متفق عليها سلفاً وبمواصفات محددة لبيعها لدولة معينة، أو لصناعة أغذية دولية.

أما الظاهرة الرابعة، فهي السعي باستمرار لربط دول الجوار بمشروعات بنى تحتية عابرة للدول، وسنرى مزيداً من مشروعات سكك الحديد ومشروعات الطرق الكبرى والجسور المعلقة والأنفاق الممتدة وأنابيب النفط والغاز. لكن الأكثر من ذلك، تمدد ظاهرة العقود التي توقع بين الدول والشركات من أجل بناء المطارات والموانئ، والطرق وغيرها على أساس BOT ومتحوراتها، أي قم بالبناء والتشغيل ثم التحويل إلى صاحب المشروع، وهذه وسيلة لقيام من لديهم رأسمال أو هم قادرون على الحصول عليه في بناء مشروعات يستردون ثمنها بالتدريج خلال 20-30 عاماً ويتمتعون بجانب السداد بحصة من أرباح المشروع الذي يدار على أسس تجارية.

وسنرى مزيداً من التنافس على مشاريع كهذه، لأنها في حقيقة الأمر مجزية لحكومات الدول صاحبة المشروع وللشركات التي تُنشئها. وهو في الواقع ليس إلا وسيلة ذكية لما اصطلح على تسميته بالعربية بالخصخصة Privatization لمدة محدودة، يشعر فيها مواطنو الدول صاحبة المشروع بأنهم سيعودون لامتلاك مشروعهم بعد انقضاء مدة التعاقد.

أما الظاهرة الخامسة، فهي متعلقة بالهجرة. وقد لاحظنا أخيراً أن قضية التعامل مع المهاجرين من دول أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة قد أضرمت حرباً سياسية حزبية شرسة بين إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطي وحزب المعارضة الجمهوري. فالرئيس بايدن ليس ميالاً لبناء الأسوار وإيقاف موجات المهاجرين، بل إلى تنظيمها والحفاظ على انتقائيتها. أما الحزب الجمهوري، فيريد منعها وعدم السماح إلا لأشخاص معينين بالدخول قانونياً ضمن الأطر التنظيمية التي يحددها الحزب في اختيار من يسمح لهم بالدخول.

وقد رأينا كذلك أن ملايين المهاجرين قد بدأوا منذ أكثر من عقد ونصف بالتدفق إلى الدول الأوروبية عبر كل الوسائل المتاحة. وصارت قصص الغرقى الذين ابتلعهم البحر المتوسط بالذات، وقصص العصابات المتاجرة بتهجير الفقراء من أفريقيا خصوصاً تملأ سمع الناس وأبصارهم. وقد أدى هذا الأمر إلى نزاعات داخل الاتحاد الأوروبي. فالدول المصدرة للعمالة فيه إلى باقي الدول الأوروبية الأغنى مثل بلغاريا ورومانيا وبولندا وهنغاريا واليونان لا ترغب في هذه الهجرة، وبعضها انتخب أحزاباً يمينية متطرفة كي تحول دون دخول المهاجرين إليها.

موقف
التحديثات الحية

والواقع أن الدول ذات النمو السكاني الطبيعي الذي يقلّ عن الصفر في المائة أو يزيد قليلاً قد ارتفع فيها معدل السن إلى أربعين عاماً أو أكثر، وبخاصة الدول الأغنى، في الوقت الذي لا يزيد فيه معدل عمر السكان في أي دوله افريقية على 22-25 عاماً. وتمرّ هذه الدول الأفريقية بما يُسمى الفرصة السكانية حيث الشباب في سنّ العمل يكوِّنون ما يقارب سبعين في المائة من السكان، ولا يجد الكثير منهم فرصة عمل داخل وطنه الأم. وهذا ينطبق على كثير من الدول العربية، وبخاصة تلك التي مرت بالربيع العربي، ولم تزل قابعة في أدنى درجات الانقسام والتشرذم.

وما دامت أسباب الهجرة قائمة، مثل الحروب، وشحّ الأمطار والجدب، واتساع هوّة الدخل والثروة داخل الدول وفيما بينها، وهي من سمات هذا الاقتصاد الجديد، فإن موجات الهجرة لن تتوقف.

أما الظاهرة السادسة، فهي اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء في الدخل والثروة في هذا العالم الجديد. وقد سمعنا أن نسبة قليلة من سكان العالم تتحكم في أكثر من 90 في المائة؜ من ثروة العالم، وأن الدولتين الأغنى، وهما الولايات المتحدة والصين، تحصلان على حوالى 45 في المائة؜ من دخل العالم في الوقت الذي يشكلان فيه خمس سكان العالم. وقس على ذلك من نسب. وقد بدأت هذه الظاهرة تستحوذ على اهتمام اقتصاديين كبار في العالم منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. وقد ترافقت مع ظاهرة نمو الأرباح الكبيرة في قطاعات التكنولوجيا والعقار وتضاؤل الأجور في كل القطاعات قياساً للأرباح.

ولا يمكن أمام هذا الميل العنيد أن يبقى العالم في حالة هدوء وأمن وسكينة. وسيجد تجار السلاح فيه فرصة لإشعال الحروب، خصوصاً أن تعدد القطبية في العالم سيجعل من الأجدى محاربة أي قطب للأقطاب الآخرين من خلال حروب الوكالة. ويساعد على ذلك وجود الخلافات والنزاعات بين الجيران في أنحاء العالم المختلفة التي قد تصل إلى مائة خلاف. وبحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2020 بمناسبة مرور 75 سنة على تأسيسها، فإن عدد الحروب قد ازداد بسبب أن أحد أطرافها على الأقل مؤسسة غير حكومية أو مليشيا أو فئة خاصة، ويكون الدافع لهذه الحروب خلافات سياسية أو اقتصادية أو إثنية أو عرقية.

والظاهرة السابعة أن العالم قد أصبح الآن يسير نحو تعدد القطبيات. وبوصولنا لعام 2030، قد يكون لدينا خمس قوى عظمى، هي: الولايات المتحدة، والصين والهند وروسيا والاتحاد الأوروبي. فأي نظام عالمي يمكن أن نتوقع؟

ولا يقتصر العالم الاقتصادي السياسي الجديد على هذه الظواهر السبع، ولكنه عالم يبدو غير مطمئن ولا مبشر بالهدوء. فهل نحن مقبلون على ثورات وقلاقل داخل الدول، أم أننا بحاجة إلى البحث عن نموذج جديد للتعاون؟ أم أن العالم قد بات أقرب إلى صراع دموي نووي فضائي؟

المساهمون