الأسباب الحقيقية لأزمة الخبز في تونس

الأسباب الحقيقية لأزمة الخبز في تونس

06 اغسطس 2023
احتجاجات شعبية ضد الحكومة التونسية بسبب أزمة الخبز (getty)
+ الخط -

بعد أن صارت مشاهد الطوابير الطويلة من التونسيين والتونسيات أمام المخابز أمراً مألوفاً منذ فبراير/شباط الماضي تطور الأمر إلى أزمة نقص حادة في المعروض من الخبز تسبب فيها تذبذب توريد الحكومة للدقيق الأبيض والسميد، وهو الأمر الذي أحدث اضطرابا في الإنتاج خاصة في ظل اضطرار العديد من المخابز للإغلاق، بل ودخول المخابز في إضراب مفتوح بدءا من يوم الثلاثاء الأول من أغسطس/آب.

والحقيقة أن كل المؤشرات كانت تُنبئ بتفاقم أزمة المواد الغذائية في تونس، وبصفة خاصّة الحبوب والخبز، فمنذ مطلع العام الماضي تمّ التأكيد على كون شراء وإنتاج تونس للحبوب سيؤمنان احتياجاتها الاستهلاكية إلى حدود فبراير 2023 فقط، وهذا ما أكدته عمليا الوقائع، فمنذ قدوم هذا الشهر بدأ النقص يظهر في الخبز ومشتقات الحبوب، وتصاعدت الأزمة بشدة خلال الشهور الماضية، وسط إنكار وتجاهل من الدولة.
ومما زاد حدة تفاقم الأزمة تراجع إنتاج الحبوب في تونس في العامين الأخيرين كنتيجة لاستمرار حالة الجفاف الحادة التي تعانيها البلاد، وقدرت الهيئات المحلية المتخصصة أن الإنتاج الوطني لن يلبي هذا العام سوى 5.8% من الاحتياجات الوطنية، الأمر الذي يعني ببساطة أن البلاد مضطرة لاستيراد كل ما تحتاجه من القمح تقريبا.

وهم المؤامرات يسيطر على قيس
بدلا من بحث الرئيس التونسي قيس سعيّد وإداراته عن الأسباب الحقيقية للأزمات المتلاحقة التي تواجه اقتصاد بلاده فإنه دائما يحيل كل مشاكل تونس إلى المؤامرات التي تُحاك في "الغُرف المظلمة"، وإلى القوى الشريرة التي تتربّصُ بمشروعه الإصلاحي، وبعد أن كان في العامين الأخيرين يُحمّل السياسيين والأحزاب والبرلمان السابق مسؤولية "الخراب" الذي تعيشه تونس ويصفهم بالخطر الداهم، صار اليوم يتحدّث عن الاحتكار والمضاربة، كأسباب لأزمة نقص الخبز الحالية في تونس.
وكان الرئيس سعيد خلال تصريحاته الأخيرة وبحضور وزيرة التجارة كلثوم بن رجب،ٌ قد أرجع فقدان الخبز ببعض المناطق إلى سعي البعض دون تسميتهم إلى اختلاق الأزمات بهدف تأجيج الأوضاع، لافتا إلى أنه من غير المقبول أن يتوفر الخبز في مناطق ويختفي بمناطق أخرى.
والعجيب أنه دعا مؤسسات الدولة إلى تحمل مسؤوليتها لوضع حد للاحتكار والتلاعب وأثرهما السلبي علي سلاسل التوريد، متجاهلا أن هذا دوره بصفته رئيس السلطة التنفيذية في البلاد، وأنه قد أقال وزيرة التجارة السابقة فضيلة الرابحي في مطلع يونيو/حزيران الماضي؛ وذلك على خلفية أزمة اقتصادية خانقة ومعدلات تضخم بلغت أرقاما قياسية في البلاد، كما يتجاهل كذلك أنه قد أصدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي مرسوماً شدّد فيه العقوبات على الاحتكار والمضاربة، وعقد أكثر من اجتماع أكد فيه على ضرورة ضرب مسالك التوزيع العشوائية، ولم يسهم ذلك في حلحلة الأزمة.

ورغم إقرار قيس سعيد بضعف الرقابة الاقتصادية وانفلات الأسعار وتدهور القوة الشرائية، فإنه يعبر عن استيائه مما سماه "لهفة كبيرة" لدى التونسيين لشراء مختلف السلع الاستهلاكية، كما يعيب عليهم التبذير في استهلاك الخبز وإلقاء كميات كبيرة منه في الفضلات على الرغم من أنه مدعوم من موازنة الدولة.
تعكس تصريحات الرئيس والمسؤولين التونسيين حالة التوهم الكبيرة التي يعانون منها، فعلى الرغم من اعترافهم بالأزمة الاقتصادية الهيكلية المزمنة التي تكبل اقتصاد البلاد، وبدلا من ايجاد الحلول لمواجهتها حتى ولو جزئيا فإنهم اعتادوا على البحث عن شماعات لتغطية فشلهم في المواجهة والحل، وللأسف فإن الأزمات تتوالى وتصبح أكثر تعقيدا بمرور الوقت، بينما تعيش الإدارة التونسية في أوهامها.

احتكار الدولة زاد من تعقيدات المشكلة
تحتكرُ الدولة التونسية عبر "الديوان الوطني للحبوب" التصرف في قطاع الحبوب في تونس، تجميعاً واستيراداً وتوزيعاً ومراقبة، وهو الديوان الذي باتت تشير إليه أصابع الاتهام بكونه المتسبب في تفاقم المشكلة، حيث يسيطر على واردات البلاد لسد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، كما يتعهد بتغطية احتياجات الاستهلاك المحلي لأربعة أشهر كاملة كحد أدنى.
ومع استمرار أزمة الجفاف التي تضرب البلاد منذ ما يزيد عن العامين تناقص الإنتاج المحلي، وتزايد الاعتماد على الاستيراد من الخارج، وهو الأمر الذي وضع الديوان في موقف مالي شديد الصعوبة خاصة في ظل شح العملة الأجنبية وتزايد الأسعار العالمية في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وكانت النتيجة الطبيعية عدم قدرة الديوان على تلبية احتياجات الاستهلاك المحلي من القمح والدقيق بصفة خاصة والسلع الغذائية على وجه العموم.
وعلى الرغم من تخصيص البنك الأوروبي دعماً بقيمة 150 مليون يورو للمساهمة في تمويل مشروع "تعزيز صمود الأمن الغذائي"، بهدف تمويل واردات القمح اللين والقمح الصلب والشعير، والتي تمثل قرابة 15% من احتياجات الاستهلاك السنوي للبلاد، وكذلك منحة الاتحاد الأوروبي والمقدرة بنحو ملياري يورو للمساعدة الفنية لدعم إعداد وتنفيذ إصلاح قطاع الحبوب، فإن ديوان الحبوب يعاني عجزا ماليا كبيرا.
يشير تقرير مراقبي الحسابات للعام 2023، إلى أن ديون ديوان الحبوب للبنك الوطني الفلاحي بلغت نهاية العام الماضي 4768.1 مليون دينار، وأنها سجلت ارتفاعاً بقيمة 827.2 مليون دينار بعجز 21% مقارنة بمستواها في 31 ديسمبر/كانون الأول 2021، لتسجل بذلك تجاوزاً كبيراً للحد الأقصى المسموح به قانوناً، والذي يقدّر بنسبة 25% من صافي رأسمال البنك.

كما يشير تقرير لوزارة المالية التونسية نشر مؤخراً، إلى أن السيولة لدى ديوان الحبوب أضحت بالسالب بقيمة (-1950.7 مليون دينار)، وهو ما يعني أن الديوان استهلك كامل رأسماله ومدخراته ولجأ للاقتراض، الأمر الذي يبعث القلق على امكانية مواصلة نشاطه في الأجلين القصير والمتوسط، وذلك على الرغم مما حصل عليه من قروض خارجية، ويشير كذلك بوضوح إلى سوء الإدارة لموارد الصندوق.

الأزمة أعمق من المؤامرات
بعيدا عن أوهام السلطات التونسية التي تنكر وتتجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة وتحصرها فقط في الاحتكار والمضاربة، فإنه من المؤكد أن المسألة أعمق وأخطر كثيرا من ذلك، وأنه لا يمكن اختزال الأزمة الهيكلية وتداعياتها على عجز الموازنة والميزان التجاري وشح العملات الأجنبية في اتهامات زائفة لعداوات سياسية أو مناكفات احتكارية.
وأزمة الخبز الحالية هي نتاج لإهمال حكومي متراكم لقطاع الزراعة والمزارعين، وعدم جاهزية الدولة للتعامل مع سيناريو الجفاف، بالإضافة إلى فشلها في توفير النقد الأجنبي المطلوب، حيث بلغ الاحتياطي من النقد الأجنبي حاليا ما يكفي لنحو 92 يوما فقط من الواردات، علاوة على فشلها في تحسين موقف التصنيف الائتماني للاقتصاد التونسي والذي صعب عملية استيراد القمح كنتيجة لعدم ثقة الموردين.
أزمة نقص الخبز والطوابير الطويلة أمام المخابز التي اغلق نحو 1500 منها أبوابها منذ يوم الثلاثاء الماضي في العديد من المناطق تعود بالأساس إلى الصعوبات المالية التي تعاني منها تونس، وفي ظل ضعف فرص الحصول على العملة الصعبة والاقتراض الخارجي فإن أزمة الخبز ستستمر وستمتد إلى سلع استراتيجية أخرى قريبا، وبدلا من حالة الأوهام التي تتخفى وراءها الإدارة التونسية، عليها مواجهة المشكلة وإيجاد الحلول، أو ترك كراسيها لمن يستطيع تقديم الحلول.

المساهمون