أزمة الديون الأميركية...صراع جديد على رفع سقف الاقتراض ينذر بكارثة لواشنطن والعالم

09 مايو 2023
تخلف أميركا عن سداد ديونها يهدد أسواق المال (فرانس برس)
+ الخط -

يُسلّم كثيرون بأن الولايات المتحدة ستتفادى السقوط في جحيم التخلف عن سداد ديونها هذا العام رغم الخلافات الحادة بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن التوصل إلى صفقة من شأنها رفع سقف الديون لتفادي كارثة حقيقية، إلا أن هذه المسلمات قد تنهار فجأة، لا سيما أن المشهد هذه المرة يختلف تماماً عن أي خلافات داخلية سابقة بشأن ترحيل أزمة الديون.

فقضية رفع سقف الديون الأميركية تأتي في خضم صراع انتخابي داخلي وصعوبات اقتصادية كبيرة تدفع الولايات المتحدة نحو ركود مخيف، فضلاً عن سباق يجري على الأرض من قبل اقتصادات كبرى من شأنه تقويض الهيمنة الأميركية.

ويبدو تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها كارثياً ليس فقط على الصعيدين السياسي والاقتصادي المحلي وإنما أيضا الاجتماعي، إذ من السيناريوهات المحتملة أن تمنح الحكومة المستثمرين الأثرياء والحكومات القوية حول العالم الأولوية في سداد مستحقات الديون، فيما تؤخر إلى أجل غير واضح مستحقات ملايين الموظفين الاتحاديين والمتعهدين والجنود والمستفيدين من الضمان الاجتماعي وغيرهم. كما أن ارتدادات الأزمة ستطاول العالم، إذ ستتعرض معظم الاقتصادات لانعكاسات مدمرة نظراً لحجم الاقتصاد الأميركي وفاعليته.

جولة جديدة من التجاذب

ويترقب الأميركيون وأيضاً المستثمرون حول العالم، جولة جديدة من التجاذب بين الرئيس جو بايدن وخصومه الجمهوريين عندما يلتقي الطرفان، اليوم الثلاثاء، لمناقشة رفع سقف المديونية العامة، في شدّ حبال تهدد آثاره الاقتصاد العالمي برمّته.

ويستضيف الديمقراطي بايدن في البيت الأبيض زعيمي الجمهوريين في الكونغرس، رئيس مجلس النواب كيفن ماكارثي وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، في لقاء سيطلق جولة حاسمة في صراع نفوذ اقتصادي يخوضه الطرفان وعينهما على الانتخابات الرئاسية عام 2024.

والنقاش حول رفع سقف الدين العام إجراء روتيني كان يتم اعتماده من دون خلافات حادة سابقاً. لكن هذا العام، اشترط الجمهوريون للموافقة على رفع سقف الدين وما يقتضيه من تجنب تخلّف واشنطن عن سداد ديونها، أن يوافق بايدن أولا على تخفيضات كبيرة في الميزانية، في تماهٍ مع الموقف القائل بأن الرئيس كان مسرفا وغير مسؤول في إدارته الاقتصادية.

في حين يشدد بايدن، الذي يأمل بالفوز بولاية رئاسية ثانية في انتخابات 2024، على أن الأولوية هي رفع سقف المديونية، ويمكن بعد ذلك البحث في خفض الميزانية لتقليص الدين البالغ 31.4 تريليون دولار حتى يناير/ كانون الثاني الماضي، وهو الأكبر في العالم.

وفي حين أن النقاش بشأن أي خطوة تسبق الأخرى قد يكون عادياً، إلا أنه تحوّل إلى اختبار إرادات سياسية مع تشبث كل طرف بموقفه، على الرغم من أن الوقت ينفد، واحتمال تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها بدأ يلوح جدياً في الأفق.

فالرئيس الأميركي الذي بلغ الثمانين من العمر، يعوّل على التعافي الاقتصادي من تبعات الجائحة الذي تحقق خلال ولايته الأولى، كورقة رابحة في معركة انتخابات 2024، حيث لا يرغب في خفض الميزانية، الذي من شأنه أن يؤثر على شعبيته لدى الناخبين.

بايدن يخشى الاقتطاعات الجائرة

وقال بايدن في حوار مع قناة "ام اس ان بي سي"، يوم الجمعة الماضي، إن الجمهوريين يريدون "أخذ الدين رهينة لدفعنا إلى الموافقة على بعض الاقتطاعات الجائرة". وذكّر بايدن بأن الجمهوريين صوتوا ثلاث مرات دون قيد أو شرط لصالح رفع سقف الدين خلال ولاية سلفه الجمهوري دونالد ترامب، مضيفا: "لم يسبق لأحد أن رفض التصويت لصالح رفع سقف الدين".

وشدد على أنه سيبلغ زعماء الجمهوريين، الثلاثاء، بأن عليهم "القيام بما قام به كل كونغرس آخر، وهو رفع سقف المديونية وتفادي التخلف عن السداد".

وسقف الدين هو الحد الأقصى للمبلغ الذي يمكن للحكومة الأميركية اقتراضه للوفاء بالتزاماتها المالية. وعند وصول الديون لهذا الحد، لا يمكن لوزارة الخزانة إصدار ديون إضافية للوفاء بالتزاماتها المالية دون موافقة الكونغرس على رفع سقف الدين أو تعليقه.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

وعلى الرغم من أن رفع سقف الدين أو تعليقه يعتبر إجراءً روتينياً، فإنه في بعض الأوقات يتحول لأزمة اقتصادية ذات طابع سياسي، في ضوء اختلاف وجهات النظر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن التعامل مع ملفي النفقات العامة والديون، كما حدث في عام 2011. ووفقاً لبيانات وزارة الخزانة، رفع الكونغرس سقف الدين 78 مرة منذ عام 1960، منها 49 في ظل رؤساء جمهوريين، و29 تحت رئاسة ديمقراطية.

وبينما طالبت وزيرة الخزانة جانيت يلين الكونغرس بالتصرف على وجه السرعة لحماية الاقتصاد الأميركي، فإن سياسة حافة الهاوية التي يتبعها الحزبان الجمهوري والديمقراطي في المواجهة لا تزال قائمة، وهو ما يزيد المخاوف من احتمالات تأثُر الاقتصادين الأميركي والعالمي سلباً.

وحذرت يلين، الأحد الماضي، من أنه ما لم يتخذ الكونغرس إجراءات عاجلة لرفع سقف الدين، "ستنشأ فوضى مالية واقتصادية". وقالت يلين في برنامج حواري على شبكة "ايه بي سي"، "ببساطة، من غير المقبول أن يهدّد الكونغرس بكارثة اقتصادية للأُسر الأميركية والنظام المالي العالمي ككلفة لرفع سقف الدين". وكانت وزيرة الخزانة قد حذرت، الأسبوع الماضي، من أنّ أموال الولايات المتحدة قد تنفد للوفاء بالتزاماتها المالية في الأول من يونيو/ حزيران المقبل.

ومنذ أن وصلت الولايات المتحدة إلى حدّ الاقتراض البالغ 31.4 تريليون دولار في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، اتخذت وزارة الخزانة إجراءات استثنائية للسماح لها بمواصلة تمويل أنشطة الحكومة. ولكن كما قالت يلين، سيتم استنفاد هذه الإجراءات قريباً.

ويقول محللون إن الأسواق ستهتز وسترتفع أسعار الفائدة بشكل دائم في حال تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، وهو ما يتسبب في إحجام الأسر والشركات عن الإنفاق. ويحذّر مستشارو بايدن الاقتصاديون من أن التخلّف عن السداد قد يتسبّب في خسارة ثمانية ملايين وظيفة ويؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6%.

أزمة متكررة

وفي السنوات الأخيرة شهدت الولايات المتحدة بصفة متكررة أزمات بشأن سقف الدين، خاصة مع الخلافات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لكن أزمة الديون تزداد تعمقاً هذه المرة في ظل ضخامة الاستحقاقات للدائنين، إذ تسببت إجراءات التحفيز النقدي خلال جائحة كورونا في ارتفاع مستويات الإنفاق الحكومي، والعجز المالي، وهو ما ساهم في ارتفاع مستوى الدين بنسبة 36% خلال الفترة من 2019 وحتى 2022. واستمر الدين في الارتفاع ليصل إلى السقف الأخير في مطلع العام الجاري.

ويتحدث محللون عن وجود مخارج عدة لتفادي التخلف عن السداد في المدى القريب، منها على سبيل المثال التوصل إلى اتفاق موقت لرفع سقف الدين يتيح استكمال المباحثات الشاقة. وهناك حل آخر قد يتمثل في إبرام تسوية تشمل التعهد باقتطاعات من الميزانية يتم تحديدها في مرحلة لاحقة لقاء رفع سقف الدين، إلا أن ذلك يهدّد بإدخال البلاد في تكرار هذا التجاذب في العام المقبل، مع ما يعنيه ذلك من تعقيدات خلال سنة الانتخابات الرئاسية.

وفي حال فشل كل الحلول، لم يستبعد البيت الأبيض اللجوء إلى صلاحية دستورية تتيح له تجاوز الكونغرس ويجيز بشكل أحادي رفع سقف الاقتراض، على الرغم من أن خطوة كهذه يرجح أن تثير جدلاً ويتم الطعن بها أمام القضاء. وفي حوار مع قناة "ام اس ان بي سي"، يوم الجمعة الماضي، أكد بايدن أن الأمور "لم تصل إلى هذا الحد بعد".

وفي ظل التجاذبات الحادة بين الديمقراطيين والجهوريين، كتب بيل دودلي، وهو باحث أول في مركز دراسات السياسة الاقتصادية بجامعة برينستون ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك من 2009 إلى 2018: "لدي رسالة واحدة أبعث بها إلى أولئك الذين يراقبون أو يشاركون في المواجهة الدائرة بشأن رفع سقف الديون الفيدرالية الأميركية: خافوا، وخافوا بشدة. فالإخفاق في التوصل إلى اتفاق، لا سيما خلال هذه المرحلة من الدورة المالية والاقتصادية، ستكون له تداعيات وخيمة".

وقال دودلي، نائب رئيس اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة وكبير الاقتصاديين سابقاً في بنك الاستثمار غولدمان ساكس، في تحليل نشره في وكالة بلومبيرغ في مطلع مايو/ أيار الجاري، إن "التوقف فجأة عن السداد، سيؤثر بشدة على اقتصاد يوشك على الدخول فعلاً في الركود".

ووفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أمس الاثنين، يمكن أن يتجه الاقتصاد الأميركي نحو كارثة إذا لم يتفق المشرعون على رفع حد الديون قريباً. في الأثناء، تشير وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني العالمية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الأميركي قد ينكمش بنسبة 4% تقريباً في حال تفاقم الأزمة، والتعثر في تمويل العجز الحكومي.

توقعات متشائمة من قِبل المؤسسات الدولية

كما تزامنت الأزمة مع التوقعات المتشائمة من قِبل المؤسسات الدولية بشأن أداء الاقتصاد الأميركي، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي نموه بنسبة 1.4% فقط خلال العام 2023.

وستتسبب الأزمة في هبوط ثقة المستهلكين والشركات، إذ من المتوقع أن تؤدي إلى إثارة المخاوف لدى شركات الأعمال، ما يضر بقراراتها بشأن الاستثمار والتوظيف، خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة، والذي يزيد من كلفة الائتمان. وستتزايد معدلات هروب رؤوس الأموال وتراجع الأسهم.

وبحسب بنك غولدمان ساكس، تراجع مؤشر "ستاندرد آند بوزر 500" بحوالي 15% خلال أزمة سقف الدين عام 2011. فيما تتوقع وكالة موديز أن تؤدي احتمالات التخلف عن سداد الديون إلى تهاوي أسعار الأسهم بنسبة الثلث تقريباً.

كما أنه مع حدوث التخلف عن سداد الديون، قد تشهد الولايات المتحدة حالة من الإغلاق الجزئي للحكومة، حيث تتوقف بعض الوكالات الحكومية عن العمل أو يتم تقليص فترات العمل، لأنها لا تحصل على الأموال التي تحتاجها.

أيضاً ستكون هناك تداعيات عالمية، إذ تهدد الأزمة مكانة الدولار، وتدفع نحو تقويض قوته في النظام المالي العالمي، ما يدعم خطط تدويل اليوان التي تقودها الصين. كما ستفقد سندات الخزانة الأميركية ميزتها كأحد الأصول الخالية من المخاطر، وهو ما يضعف نسبياً إقبال المستثمرين عليها. وفي الوقت نفسه، تشكل تلك الأزمة خطراً على استقرار الأسواق المالية العالمية.

وفي ظل هذه التداعيات، يبدو أن إدارة بايدن تسعى أيضاً إلى اللعب على الوتر السياسي وتأثير هذه الأزمة الداخلية على موقع واشنطن الخارجي في مواجهة خصوم مثل الصين وروسيا.

الفوضى تعم النظام الأميركي

وقالت مديرة مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض شالاندا يونغ، الخميس الماضي: "يرغبون برؤية الفوضى تعم النظام الأميركي. يرغبون برؤية أننا غير قادرين على أداء وظائفنا الأساسية".

كما حذرت مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية أفريل هاينز من أن الصين وروسيا تسعيان للترويج إلى أن نظام الولايات المتحدة يشوبه خلل. وأعربت هاينز خلال جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلّحة في مجلس الشيوخ، الخميس الماضي، عن اعتقادها بأن روسيا والصين ستسعيان إلى تصوير الأمر عبر حملات إعلامية على أنه "يشكّل برهانا على الفوضى في الولايات المتحدة".

وأضافت هاينز أن أي تخلّف عن السداد من شأنه "وعلى نحو شبه مؤكد" أن يثير "حالا من عدم اليقين عالميا بشأن قيمة الدولار ومؤسسات الولايات المتحدة وريادتها".

المساهمون