"إنترفيو على الهوا"

"إنترفيو على الهوا"

29 يونيو 2022
النيل يحظى باحترام كبير في جنوب السودان (getty)
+ الخط -

في زيارة قمت بها قبل ثلاثة عشر عاماً لجنوب الوادي، السودان الشقيق، ذهبت مع مضيفي في نزهة بالقرب من النيل، فدهشت من هيبة النهر العظيم عندهم واحترامهم له، خاصة وقد كانت في ذهني صورة غير طيبة لما يحدث له من انتهاكات في بلادنا. فلما استفسرت عن السبب، عرفت أن هناك قانوناً، لا أعرف إن كان قد تغير أو لا، يمنع بناء أي مبنى، مسكناً كان أو فندقاً أو مطعماً، على مسافة تقلّ عن خمسمائة متر عن النهر!

بعدها أخبرني الصديق وعلى وجهه ابتسامة أسف أن أول انتهاك لحرمة النهر الخالد والقانون كان على يد رجل أعمال مصري، نجح في الحصول على تصريح لإقامة مطعم أو فندق، لا أتذكر حقيقةً، على جزيرة تقع داخل النهر!
تذكرت هذه القصة وأنا أتابع رجل الأعمال نفسه، الذي مُنع سفره العام الماضي، وحاول السفر الأسبوع الماضي فمنع منه مرة أخرى، بسبب الحكم بسجنه ثلاث سنوات في قضية إصدار شيك من دون رصيد، حين استعان به المذيع الأكثر شهرة في العالم العربي، في واحد من أكثر البرامج مشاهدةً، ليسأله عن رأيه في كيفية خروج الاقتصاد المصري من الأزمة الاقتصادية الحالية.
بدأ المستثمر، الذي يتحدث الكثيرون عن أدوارٍ كثيرة لعبها والده الصحافي الشهير، بعلاقاته ونفوذه قبل وفاته، في نجاح صفقاته، وتمكنه من الفوز بثقة العديد من الحكومات العربية، حتى تمكن من الدخول في استثمارات ضخمة، سمحت له بتحقيق ثروات طائلة، بدأ حديثه مطالباً الشعب المصري بالتخلي عن العديد من الشعارات الخاطئة التي تمسكوا بها لعقود، وكان على رأسها مقولة إن "العيال تأتي برزقها".
قال الرجل ما قاله وهو يعلم جيداً أن العنصر البشري من أهم عوامل تحقيق التنمية الاقتصادية، وأن كثرة عدد السكان تكون في أغلب الأحيان من أهم أسباب قوة الاقتصاد، إن أُحسنت إدارتها، كما حدث في العديد من البلدان. قال الرجل ما قال، ونسي أنّ الله تعالى يقول في كتابه الكريم: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ"، وهي ليست بالتأكيد دعوة إلى الدروشة، بل هي الثقة بوعد الرحمن.

شغلت العلاقة بين النمو السكاني والتنمية الاقتصادية موقعاً مهماً في التحليل الاقتصادي منذ عام 1798 على الأقل عندما دفع توماس مالتوس، رجل دين واقتصادي إنكليزي شهير، بأن النمو السكاني من شأنه أن يخفض مستويات المعيشة على المدى الطويل.
كانت نظرية الرجل بسيطة: "نظراً لوجود كمية ثابتة من الأراضي، فإن النمو السكاني سيقلل من كمية الموارد التي يمكن أن يستهلكها كل فرد، ما يؤدي في النهاية إلى المرض والمجاعة والحرب". واعتبر الرجل أن السبيل لتجنب مثل هذه النتائج المؤسفة "ضبط النفس الأخلاقي"، أي الامتناع عن إنجاب الكثير من الأطفال.
لم يتوقع الاقتصادي الكبير التطورات التكنولوجية التي نجحت في ابتكار صناعات وأنشطة لم تكن موجودة في عصره، وسببت زيادة الإنتاجية الزراعية وتقليل ضحايا الأمراض المعدية، وهي التحولات التي سمحت بزيادة الإنتاج العالمي، على الرغم من ارتفاع عدد سكان العالم من 1 مليار نسمة في عام 1798 إلى أكثر من 7.5 مليارات نسمة الآن.
رفض الدكتور وولفجانج فنجلر، الاقتصادي الكبير بالبنك الدولي، فكرة تعارض النمو السكاني مع تحقيق التنمية الاقتصادية، وأكد مراراً أنه لا يشعر بالقلق من تزايد معدل النمو السكاني في أفريقيا، التي يعرف أنها أقل ازدحاماً بالسكان من أوروبا الأقوى اقتصادياً، وقال إنه لم يسمع أحداً من قبل يتحدث عن الكثافة السكانية في أوروبا.
يرى فنجلر أن زيادة عدد السكان في أفريقيا لا ترجع حالياً لزيادة عدد المواليد، بل ترجع بالأساس إلى ارتفاع متوسط أعمار المواطنين، وهو ما يعني أن هناك عائلات أكثر، لكن بعدد أطفال أقل، أي أن القوى المساهمة في الإنتاج في رأيه تزداد مع الزيادة السكانية الملحوظة.
يقول فنجلر إن النمو السكاني والتحضر، ويقصد به الانتقال إلى حياة الحضر أو المدن، يسيران معاً، وإن التنمية الاقتصادية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتحضر، وإن الدول الغنية دول حضرية "حيث لم يصل أي بلد على الإطلاق إلى مستويات دخل عالية مع انخفاض التحضر". ويرى فنجلر أن النمو السكاني يزيد من الكثافة ويؤدي، إلى جانب الهجرة من الريف إلى الحضر، إلى تكتل حضري أعلى، وهو ما يراه أمراً بالغ الأهمية لتحقيق النمو المستدام، لأن المراكز الحضرية الكبيرة تسمح بالابتكار وتزيد من وفورات الحجم، فتنتج الشركات كميات أكبر من السلع، وبتكلفة أقل.

حضرت مع رجل أعمال ومليونير أميركي العديد من المقابلات التي كان يبحث من خلالها فرص شرائه شركات ناشئة، فكان سؤاله عن عدد الموظفين بالشركة التي يفحصها يأتي في مقدمة أسئلته، وكنت أتعجب وأتساءل في نفسي: ماذا عساه يعرف عن الشركة من سؤال كهذا؟ فلما سألته، قال لي إن كل موظف في الشركة الناجحة يدرّ إيراداً يفوق تكلفته هو شخصياً، وهو ما يعني مساهمة في الأرباح التي تحققها الشركة.
الأمر نفسه ينطبق على الدول، حيث يمكن استغلال كل مواطن في سنّ العمل لتحقيق زيادة في الإنتاج تفوق ما ينفق عليه، وبالتالي يمكن تحقيق زيادة في متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي، جوهر التنمية الاقتصادية والهدف الذي يفترض أن يكون على رأس أولويات الاقتصاديين في أي بلد. اتهم رجل الأعمال الزيادة السكانية بالتسبب في تراجع معدلات النمو الاقتصادي، ولم يتحدث عن الفساد، وهاجم بكل قوته فكرة "دعم السلع"، وتساءل عمّن أدخلها إلى مصر ومتى ولماذا فعل ذلك، متناسياً أنها دخلت مصر في وقتٍ كان والده فيه أقرب مستشاري رئيس الجمهورية وأكثرهم تأثيراً به، قبل أن يحاول تبرئة نفسه من التهم المنسوبة إليه ولشركته، لنعرف أخيراً الهدف الحقيقي من اللقاء، الذي وصفه أحد الأصدقاء بأنه "مقابلة لترشحه لوظيفة".

المساهمون