"أفريكوبرا".. فن أسود ضد الخوف

"أفريكوبرا".. فن أسود ضد الخوف

05 يونيو 2020
عمل لـ باربرا جونز هوغو
+ الخط -

قرابة ثلاثين عاماً تفصل بين أغنيتي "فاكهة غريبة"(1939) بصوت بيلي هوليداي، و"قلها بصوت عالٍ: أنا أسود وأفتخر" (1968) لـ جيمس براون، ثلاثة عقود بين هوليداي المتألم يسرد المشهد الرعوي في الجنوب، حيث الجسد الأسود يتدلى من شجرة كأنه ثمرة غريبة، وتختلط تحته رائحة ماغنوليا حلوة وطازجة برائحة اللحم المفاجئة، وبين دعوة براون الثورية "سنموت واقفين على أقدامنا بدلاً من العيش جاثين على ركبنا، قلها بصوت عال: أنا أسود وأفتخر".

ستصبح هذه الأغنية ضربة فورية شعبية وسياسية، ويصدح بها المتظاهرون في المسيرات، المفارقة أن براون بعد بضع سنوات سيتخلى عنها، سيقول "كنا نحتاجها في تلك اللحظة. كنا بحاجة إليها لزراعة الفخر في مجتمع السود، لفهم من نحن كشعب، ولكن الأمور أكثر تعقيدًا الآن". هذا ما يقوله في السبعينيات، حين بدأت سياسته بالتشتت في مصالح مختلفة.

نحن في الستينيات في أميركا، في لحظة من الانبهار العميق بالسواد بطريقة مختلفة لم يعرفها المجتمع الأميركي من قبل، وقد عبّر السود عنها بكل شيء تحت أيديهم؛ بالفن والأدب والموسيقى والغناء والمظاهرات، لحظة أعقبها قانون الحقوق المدنية وحق التصويت، وتلاها أيضاً السؤال الصعب: ماذا سنفعل بعد ذلك؟

آنذاك صرخ إلدريدج كليفر (1935-1998) من سجنه، قائد "النمور السود" الذي عرف بكتاباته من داخل السجون البيضاء: "يجب السيطرة على الشرطة بأي وسيلة كانت، حتى لو من خلال قوة السلاح... نقولها الآن، بصوت عال وواضح، سنقولها دائمًا ولا نخشى أن نقولها، على الخنازير العنصرية الغستابو أن تتوقف عن أن تعامل مجتمعنا بوحشية، وإلا حملنا الأسلحة"، وبالفعل وقعت أعنف مظاهرة عام 1966 وسميت "مظاهرة ضد الخوف" وقتل بالفعل رجال من الأمن الفيدرالي على يد المتظاهرين السود.

كان من الصعب أن يظل الفنان التشكيلي الأسود خارج هذه الثورة العارمة، وظهرت في شيكاغو حركة "أفريكوبرا" ( اختصار لـ الكوميونة الأفريقية للفنانين السيئين)، وضمّت مجموعة من الفنانين الأميركيين السود وكان هدفها الإساسي هو كيف يبرز الفن الهوية السوداء، ويقدم لغة بصرية فنية جديدة متجذرة في ثقافة الأحياء السوداء في شيكاغو.

حول هذه المجموعة صدر مؤخراً كتاب توثيقي بعنوان "أفريكوبرا: فن تجريبي نحو مدرسة فكرية" (منشورات جامعة ديوك)، من تأليف أحد مؤسسيها الفنان وادسورث جاريل (1929)، وفيها يسرد قصة الحركة وسيرة فنانيها المؤسسين جيف دونالدسون، غاي جاريل، باربرا جونز هوجو، وجيرالد ويليامز.

يتناول جاريل كيف فكرت المجموعة بما عُرف بـ "جدار الاحترام"، وهو جدارية رسموها على مبنى في شارع لانغلي بشيكاغو، وضمت بورتريهات لشخصيات بارزة في تاريخ المجتمع الأفرو أميركي مثل مالكولم إكس، ومحمد علي كلاي، و نات تورنر، وأريثا فرانكلين وهاريت توبمان وآخرين، وأصبح الجدار "رمزاً للقومية السوداء والتحرر"، إلى أن جرى تدميره عام 1971.

لم تكن المجموعة فنية وحسب بل وسياسية أيضاً، وهناك من اعتبرها نظيراً فنياً لحزب "النمور السود" الاشتراكي، يروي جاريل في الكتاب كيف تحدت "أفريكوبرا" المفاهيم البيضاء للفن من خلال تطوير فلسفة فنية ونهج متجرد من الممارسات الغربية، وبحسب شهادة كتبتها الفنانة باربرا جونز هوغو "لقد كنا أكثر من مجرد مجموعة من الفنانين. لقد كانت أفريكوبرا دعوة حارة للحرية تأسست على مجموعة من المبادئ الفلسفية والجمالية، تقوم على النضال من أجل التحرير والمساواة داخل المجتمع الأمريكي الأفريقي من خلال الفن".

يضم كتاب جاريل ما يقرب من مائة صورة للأعمال الفنية، وكاتلوغات المعارض التي أقيمت وقصصها وصعوبات تنظيمها، وصور فوتوغرافية شخصية للفنانين الذين كانت أعمالهم تحاول أن تنقل إلى جانب الهوية السوداء واقع الأحياء التي يعيشون فيها وقضاياهم وأحلامهم.

بعد نصف قرن على حركة الحقوق المدنية، على الحركات الفنية والروايات السوداء الرنانة، بعد أن مرت لحظتان أيقونيتان هما توقيع قانون الحقوق المدنية وقانون حق التصويت، وبدا للأميركيين الأفارقة أنهم حصلوا في النهاية على حقوقهم الكاملة كمواطنين، كيف يمكن التحدث عن العرق والعنصرية كما هي على الأرض في أميركا اليوم؟ كيف تقاس المسافة بين البلاغة السياسية والخطابات مقابل الواقع وندبة العرق (أو جرحه المفتوح على الأصح) على وجه التاريخ الأميركي؟ وأي فنان يلتقط صورة لواقع السود في أميركا اليوم أفضل مما تفعل الهواتف النقالة؟

المساهمون