مفكرة المترجم: مع أحمد شافعي

31 اغسطس 2019
(أحمد شافعي)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "أُترجم لقارئ يريد من كل قراءة أن تجعله أكثر إنسانية، وترتقي بفهمه لنفسه وللناس من حوله وللكون"، يقول المُترجِم المصري في لقائه مع "العربي الجديد".


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟

- كنت أجلس عصر كل يوم أمام بيتنا في القرية، على واحدة من ست قواعد حجرية حملتها لعشرات السنين أعمدة مسجد القرية الكبير، ثم بيعت في مزاد لتوفير المال اللازم لإعادة بناء المسجد. اشترى أبي ستّاً منها، ووضعها في صفَّين أمام باب البيت، فكنت أجلس عليها عند العصر، شاعراً صغيراً يراقب الغروب والفلاحين الراجعين ببهائمهم من الحقول.

وحدث يوماً أن رأيتُ قريباً يغادر القرية في تلك الساعة، ثم يَرجع بعد سويعات. سويعات قليلة في آخر النهار هي كل يوم عمله في القاهرة القريبة من قريتنا. كنت أعرف أنه يعمل مترجماً، وخطر لي وأنا جالس تلك الجلسة أن هذه بالضبط هي المهنة الملائمة لي، فمن شأنها أن توفّر لي أغلب يومي للقراءة والكتابة.

نصحني أيضاً أستاذ لي في الثانوية بأن أعدل عن التخصُّص في الفلسفة كما كنت أريد. ووجّهني إلى دراسة الإنكليزية. قال بمنطق بسيط وسديد: "تعلَّم لغة إضافية واقرأ بها من الفلسفة وغيرها ما شئت". ولم أزل أتعلّم اللغة، في انتظار أن أقرأ ما أشاء.

لم أكد أنهي دراستي الجامعية حتى شرعت على الفور في الترجمة الأدبية، مُشبِعاً في آن واحد رغبتي في القراءة وحاجتي إلى العمل. في البداية لم تُوفّر لي الترجمة أكثر من جنيهات لسجائري، وبعض الكتب، ثم تبدّل الحال شيئاً فشيئاً.


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟

- صدر لي خلال العام الحالي 2019 ثلاثة كتب، رواية "إلمت" لـ فيونا موزلي (دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، قطر) وكتاب "بيت حافل بالمجانين، زيارة ثانية" حوارات باريس رفيو مع وليم فوكنر، وسيمون دي بوفوار، وفلاديمير نابوكوف، وجون شتاينبك، وماريو فارجاس يوسا، وأليس مونرو، وخوسيه ساراماغو، وهاروكي موراكامي (دار مدارك، السعودية) ورواية "وزارة السعادة القصوى" لـ أروندهاتي روي، (الكتب خان، مصر).

وأعمل حالياً على ترجمة كتاب (Hidden Figures) لـ مارجوت لي شيترلي، ويؤرّخ للدور الذي قامت به النساء الأميركيات الأفريقيات في ناسا خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، مُلقياً الضوء على إسهامهن المنسي في أهم مشاريع ناسا الفضائية.


■ ما هي برأيك أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟

- القارئ الجاهل، والمترجم الرخيص.


■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمّة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟

- المشكلة أن دور المحرّر ليس محدّداً بعدُ تحديداً دقيقاً. في كتبي المترجمة الأولى التي صدرت عن المشروع القومي للترجمة في مصر، قبل سنين من تحوله إلى المركز القومي للترجمة، كان يُشترط لكل ترجمة وجود مُراجع حاصل على الدكتوراه في تخصّص الكتاب المترجم. هكذا روجعت كتبي على يدَي كلّ من أستاذنا الدكتور ماهر شفيق فريد والدكتور جمال الجزيري. وكانت التجربتان مفيدتين للغاية، كل بطريقتها، في بداية عهدي بالترجمة.

كما كانت لي تجربة أسبق مع الشاعر والمترجم رفعت سلام الذي اطّلع على عدد من ترجماتي الشعرية، وكذلك الراحل الأستاذ طلعت الشايب، ولم يبخل كلاهما علي بالملاحظات والتصحيحات. فضلاً عن أنني زاملت لفترة الكبير الراحل بشير السباعي، فكانت لنا حوارات مهمة ـ على قلّتها ـ سواء حول الترجمة أو الثقافة بعامة، وقد ظللت أرجع إليه وأستشيره حتى نهاية حياته.

بعد ذلك، لم تمرّ كتبي بمراجعين، لأنني عملت مع دور نشر خاصة تحاول تقليل التكلفة قدر استطاعتها.

ما أفهمه هو أن الترجمة دائماً بحاجة إلى مراجعة، بشرط أن يقوم بها مترجم ذو كفاءة ويمكن أن نسمّيه محرّراً إن لزمت هذه التسمية. وتحتاج إلى مصحح جيّد للّغة العربية ـ وهو ما أحرص عليه بل ألحّ ـ وهذا أيضاً يمكن أن نسمّيه محرّراً إن لزم الأمر. عدا هذين الأمرين، لا أتصوّر أن يقترب أحد من الترجمة أو يُعمل فيها قلماً.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- أنشر ترجماتي منذ سنة ألفين، في الجرائد والمجلات ودور النشر. فليس غريباً أن أكون قد تعرّضت لشتى أنواع الناشرين: المثقّف المتحمّس للعمل الثقافي في المقام الأول، والتاجر الذي لا يعنيه إلّا تعظيم ربحه، والخبير قديم العهد بالمهنة، والمبتدئ عديم الدراية. وأتصوّر أنني استطعت أن أتعامل مع الجميع. لديَّ من المرونة ما يجعلني أحاول مع كل ناشر أن أنشر عملاً تهمّني ترجمته، ويفيده نشره، وليس العثور على هذه الأعمال بالأمر المستحيل.

في العادة أرشّح للناشر ما أريد ترجمته، حريصاً على أن يكون عملاً متناغماً مع اهتمامات داره أو توجّهها. ولكن حدث في مرّات كثيرة أن رشّح لي ناشرون أعمالاً ورأيتها تتفق واهتماماتي فعملت عليها. بصفة عامة، ومثلما قلت مرّة لرئيس تحرير عملت معه: "ما دام الأمر متعلّقاً بالترجمة، فأنا قادر على أن أتعامل حتى مع الشيطان".


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك الأعمال التي تُترجمها، وإلى أي درجة تتوقّف عند الطرح السياسي للمادّة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- لم أكن يوماً متّبعاً لأيديولوجية، لكنني قدر استطاعتي ملتزم بمبادئ، متّبع لنزعة إنسانية. فلا أظن أن بوسعي ترجمة عمل يناصر الطغيان، أو يعادي الحرية، أو يمايز بين الناس على أساس اللون أو النوع أو الدين. أبحث عن الجمال والمتعة في الأدب، والفائدة المعرفية في ما أترجمه بعيداً عن الأدب. أترجم لقارئ مثلي يريد من كل قراءة أن تجعله أكثر إنسانية، وترتقي بفهمه لنفسه وللناس من حوله، وللكون الكبير الذي يحتوينا جميعاً.


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟

- ترجمت لأحياء ولموتى، لشعراء من الصين ماتوا قبل قرون، وشعراء من أميركا أرسلوا لي قصائدهم عبر الإيميل. ترجمت لمؤلّفين بيني وبينهم محيطات، ومؤلّفين التقيت بهم على مقاهٍ في القاهرة. عرفت ما في القرب من المؤلّف وما في البعد عنه من مزايا ومن عيوب. استشرت مؤلّفين في معنى خفي لعبارة فانتشيتُ بإضاءاتهم لنصوصهم، وعكفت على جمل مات مؤلّفوها وتركوها غامضةً فانتشيت بتفكيك غموضها أو تصوّري أني فعلت ذلك.

عرّفتني الترجمة بمؤلّفين صاروا من كتّابي الأثيرين، وعرّفتني بمؤلفين فنفرت منهم إلى الأبد، أشخاصاً وأحياناً كتّاباً. وأظن هذا طبيعياً. لكن علاقتي الحقيقية هي مع النص الذي أترجمه، أحاول أن أقترب منه بقدر اقتراب مؤلّفه منه. أقرؤه، ثم أترجمه، ثم أعيد قراءته في لغتي مرّة واثنتَين وثلاثاً حتى تأتي لحظة كالتي تمرّ بكل مؤلّف مع كتابه، إذ يدفعه إلى الناشر ليتخلّص من صحبته، ويحميه من تدخّلاته التي قد تضرّه.


■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟

- في طمع.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معيّنة في الترجمة؟

- ما لا يُدرك كلّه، لا يترك كلّه. أعتقد أن ذلك النهج البراغماتي لا يصدق على شيء مثلما يصدق على الترجمة. لو أمكنني أن أنقل كل جملة إلى لغتي في مثل تركيبها وأصواتها وإيحاءات وتاريخ كلّ كلمة فيها لفعلت. ولكن ليس هذا بوسعي. عليَّ دائماً أن أنقل قدر ما أستطيع، وأن أكون مفهوماً. ينبغي أن لا يكون عجزي عائقاً يحرم النص من الوصول إلى القارئ.

بالنسبة إلى الشطر الثاني من السؤال، أترجم في الصباح الباكر، وأراجع أوّلاً بأوّل، وأعيش على القهوة والسجائر.


■ كتاب أو نصّ ندمتَ على ترجمته ولماذا؟

- إنبوكس.


■ ما الذي تتمنّاه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجِم؟

- أرجو أن يأتي يومٌ أرى فيه كل الأطراف المعنية بالترجمة تعمل إرضاءً لضمائرها. في ظنّي أنه إذا أرضى كل واحد يقدّم أي إسهام في نشر الكتاب المترجم ضميره، فلن يُترجَم عنوان لا يستحق الترجمة، ولن تُنشر ترجمة إلا بالحد الأدنى من الأخطاء.

أحلم بورشة للترجمة أقيمها مرة في السنة لنحو أربعة أشهر مثلاً، وتنتهي في كل دورة بكتاب صغير يقدّم خمسة مترجمين على الأكثر، في خمس قصص قصيرة، أو خمس مقالات، أو نصوص لخمسة شعراء. أعتقد أن أكثر ما يؤهّلني لهذا الدور هو أنني قارئ شديد السخافة، أو ربما قارئ شديد الحساسية، تقع عينه بسرعة على الخطأ وتنفر منه، فهي دائمة التفكير في سبل لتصحيحه. هناك من هم أعرف مني بالإنكليزية وبالعربية وبالترجمة، ولكن ميزتي، إن كانت ميزة، هي أنني لا أتسامح مع الأخطاء. في تصوُّري أنا مدين بإقامة هذه الورشة لنفسي بقدر دَيني بها لغيري.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بطاقة

شاعر وروائي ومترجِم مصري من مواليد 1977. صدر له في الشعر: "طريق جانبي ينتهي بنافورة" (2000)، و"وقصائد أخرى" (2009)، و"77" (2017)، وفي الرواية: "رحلة سوسو" (2003)، و"الخالق" (2013).

ترجم أكثر من عشرين كتاباً، من بينها: "فندق الأرق" (مختارات من تشارلز سيميك، 2004)، و"امرأة عادية" (مختارات من ليوسيل كليفتون، 2004)، و"رجل القمر" (مختارات لبيلي كولينز، 2006)، ومختارات قصصية لـ أليس مونرو (2013)، و"كلنا نولد مصابين بالغثيان" (مختارات شعرية من راسل إدسن، 2015)، ورواية "الباب الأزرق" لـ آندريه برينك (2015)، و"السامريون الأشرار" لـ هاجون تشانج (2016)، و"هنا والآن" (رسائل بول أوستر وجي إم كوتزي، 2016)، و"صانعات الحلوى" لـ لو دروفنيك (2018).

صدرت له هذا العام ترجمتان: "إلمت" لـ فيونا موزلي، و"وزارة السعادة القصوى" لـ أروندهاتي روي، و"بيت حافل بالمجانين، زيارة ثانية" (حوارات لـ باريس رفيو مع عددٍ من الكتّاب العالميّين).

المساهمون