سويسري مجهول يصف حلب وأنطاكيا عام 1827

سويسري مجهول يصف حلب وأنطاكيا عام 1827

16 نوفمبر 2019
نواعير الماء على نهر العاصي في حماة (Getty)
+ الخط -

رحلة الشاب السويسري، إلى سورية والجزيرة العربية وبلاد فارس، رحلة مميزة كونها تمت في فترة حساسة من تاريخ المنطقة، أي في عشرينيات القرن التاسع عشر (عام 1827م على الأرجح)، ففي هذا الزمن كانت بلاد الشام تعاني من غياب السلطة والقانون نتيجة ضعف السلاطين العثمانيين، ما مهد في فترة لاحقة قريبة لاحتلالها من قبل قوات إبراهيم باشا، نجل محمد علي باشا حاكم مصر العثماني.

وقد نقل هذا الرحالة السويسري مجهول الاسم عن عمد، حيث نشر رحلته بدون اسم، وصفاً لبعض مدن سورية الشمالية والجنوبية، ونظراً لأهمية وصفه لمدن حلب وحماة وحمص وأنطاكيا في تلك الفترة، خصوصاً أن حلب كانت قد خرجت لتوها من كارثة زلزال مدمر وثقه هذا الرحلة بدقة نقلاً عن شهود عيان، ارتأينا أن ننشر هذا القسم من الرحلة التي لم تنقل إلى العربية حتى الآن، حيث صدرت بالفرنسية عام 1830م.


الطريق من تدمر إلى حلب

يقول الرحال السويسري: "لا نجد في محطتنا الأولى سوى خيام العرب البدو، حتى وصولنا إلى حمص، هذه المدينة التي كانت منيعة وكثيرة السكان، لا تضم الآن عشرة آلاف نسمة، يسكنها آغا، تابع لباشا دمشق، بعد ثماني مراحل نصل إلى حماة المشهورة في سورية بنواعيرها المائية، الطريق من حمص إلى حماة يظل مقفراً حتى نصل إلى قرية الرستن، العاصي، الجسر وعدد من الأشجار تزين ضفتيه، طاحونة، وشلال ماء، أطلال دير قديم، كل هذه الأشياء مجتمعة تشكل مشهدا خلابا.. تقع حماة في سهل العاصي وتمتد على جانبيه، وتربط بين شطريها أربعة جسور، يقدر بوركهاردت عدد سكانها بثلاثين ألفاً، في وسط المدينة هناك مرتفع كبير، حيث كانت القلعة، البيوت بشكل عام مبنية من الطين، ذات مظهر شاحب، ويوجد فيها ثلاثة عشر جامعاً، ولكن ما يثير الانتباه في حماة هي نواعيرها، يبلغ قطر الواحدة منها 32 قدماً، وهي تعمل بقوة دفع المياه للجزء الغاطس في تيار النهر والحامل للدلاء، وعندما يصل الدلو المليء إلى القمة ينسكب في قناة من الحجر مرفوعة بأقواس كبيرة على مستوى التلة نفسه حيث يتوزع الماء على خزانات المدينة العامة والخاصة. التجارة الرئيسية لحماة هي مع عرب الصحراء حيث يشترون من حماة الخيام، والمعاطف الصوفية. باشا دمشق لكي يحافظ على طاعة المدينة يسيطر على حامية في المدينة مكونة من خمسمئة فارس تقريباً".

ويضيف قائلاً: "في هذه الجهة من سورية الأرض مناسبة لزراعة القطن والحبوب، ولكن غارات الأعراب المتكررة، جعلت الزراعة تتراجع. المنطقة الغربية من أراضي حماة تُعدُّ مخزن غلال سورية الشمالية، ولكن الأعداد الرهيبة من الفئران تقضي على كثير من المحاصيل، وبأي حال لا يمكن مقارنة الناتج هنا بمنتوج سهل حوران.. النهر يسقي عدداً كبيراً من المزارع والبساتين على ضفتيه، والتي غالبا ما تغرق في الشتاء، أما الأراضي المرتفعة فتتم سقايتها عن طريق النواعير.. بدل أن نتبع طريق القوافل عبر الصحراء، والتي تمر بالمعرة، قمنا باجتياز السلسلة الصخرية الصغيرة، وكان هدفنا الوصول إلى قلعة شيزر، التي يعتقد أنها شيدت في عصر الفاتحين المسلمين الأوائل، والتي لا تسكنها الآن سوى مئات من العائلات الفلاحية، ثم عدنا إلى حوض العاصي، بعدما اجتزنا النهر على جسر بثلاثة عشر قوساً، وصلنا إلى قلعة المضيق التي يعتقد أنها بنيت في مكان المدينة القديمة التي كان اسمها أفاميا، حيث كان سلوقس نيكاتور يقتني في هذه المنطقة قطيعاً من الفيلة بلغ عدده 500 فيل، وكان ملوك سورية يجمعون قطعانهم في هذا المكان بسبب وفرة الغلال. المدينة القديمة دمرت بفعل زلزال في العام 1157".

وحول حوض العاصي، يقول: "يحمل حوض العاصي اليوم اسم الغاب، حيث يمر التركمان بقطعانهم، كما أننا وجدنا جماعة من العرب البدو، يسمون عرب الغاب، يعيشون في الشتاء في قرى متناثرة هنا وهناك، ولا يزرعون سوى الأراضي الملاصقة لمساكنهم، ومع اقتراب الصيف يهاجرون مع قطعانهم إلى الجبال بحثا عن الكلأ والمرعى، وهرباً من البعوض الذي يغزو الوادي في مثل هذا الفصل".


في قرية الحواش

وفي وصفه لقرية الحواش في سهل الغاب، يقول: "سنبيت هنا الليلة في الحواش، وهي القرية الرئيسية في الغاب، تضم تقريباً 140 بيتاً من الطين المسقوف بالقصب، تقع بالقرب من بحيرة يغذيها جدول صغير ينحدر من الجبال، ومحيطها معرض دائما للفيضان، سكانها يزرعون الذرة والحبوب، ويربون قطعاناً كبيرة من الجاموس. ليس بعيداً عن الحواش هناك بحيرة صغيرة تؤمن للسكان تجارة مربحة حيث يتوفر فيها نوع من السمك يحمل اسما ولونا واحدا (السمك الأسود)، الصيد يتم ليلاً على ضوء المصابيح في مراكب صغيرة تتسع لأربعة أو خمسة رجال، مزودين بحربونات طويلة، تتجمع كمية كبيرة من الأسماك على ضوء المصابيح فيرمي الصياد حربونه لا على التعيين في وسط كتلة الأسماك ولكثرتها نادراً ما يخطئ الحربون هدفه، وقبل طلوع الضوء يكون المركب قد امتلأ بالأسماك.. ثم يقومون بتمليح الأسماك وبيعها في مدن سورية، حيث يشتريها المسيحيون خاصة لاستهلاكها أثناء فترات صيامهم الطويل، كما يوجد في البحيرة سمك الشبوط أيضاً، الذي يصطادونه بالشباك ويتم بيعه لأهالي حمص وحماة. البحيرة لا يبلغ عمقها أكثر من عشرة أقدام، ويمكن الدوران حولها في ساعة ونصف، جميع الجبال التي تشكل سلسلة جبال أريحا من قلعة شيزر إلى أريحا مغطاة بآثار وأطلال مدن قديمة، وبعضها كانت مدناً كبيرة وجميلة، بوركهاردت اكتشف هنا عدداً من المغاور الجنائزية، وتوابيت".


زلزال حلب

بعد أن يسير 16 ساعة يصل إلى مدينة حلب التي يصفها بقوله: "هذه المدينة غنية جدا بتجارتها، ولكنها ليست على حالها منذ سنوات، حيث في شهر آب/ أغسطس في العام 1822، حدث الزلزال الرهيب الذي جعل من حلب وريفها خراباً وركاماً، ولدينا هنا شاهد عيان هو السيد باركر، القنصل الإنكليزي في حلب، الذي كان في أنطاكيا أثناء الزلزال، ولكن أخوه كان في حلب وهو من مؤسسة الكتاب المقدس البريطانية، وهذا ما كتبه في هذا الخصوص: الزلزال الذي حدث في 13 آب الساعة التاسعة والنصف مساء، حلب وأنطاكيا وكل المدن والقرى وكذلك المساكن المنعزلة في جميع أنحاء البشالك (المقصود باشوية حلب)، وبعض المدن في البشالك المجاورة، في فترة زمنية لم تتجاوز عشر ثوان، تحولت إلى ركام وغبار، في هذه الكارثة قضت عشرون ألف روح تحت الأنقاض، أي ما يعادل ثلث عدد السكان، ومثلهم من الجرحى والمعاقين والمشردين. من المستحيل أن نكوّن فكرة عن مشهد الرعب الذي حدث في هذه الليلة المروعة، الظلام العميق الذي خيم على المدينة، وعنف الهزات المتوالية، طقطقة الجدران قبل انهيارها على رؤوس الناس، الآهات، صرخات الاستغاثة اليائسة، كانت تسمع في هذه الليلة الطويلة، مشكلة لوحة حيث الرعب يتجاوز كل قدرة على الوصف، هكذا حتى الفجر عندما أضاء ضوء النهار مسرح الكارثة، وتمكن بعض التعساء من مغادرة أماكنهم التي صمدت بأعجوبة فانكشف لأعينهم مشهد الكارثة المروعة، ناس راكعون للصلاة بين الركام والغبار، وآخرون يرتمون في أحضان أقرباء لهم شركاء المصيبة، تهان بالنجاة، والحب الأخوي يزين الوجوه، ولكن مع ارتفاع شمس النهار، واشتداد حرارتها، بدأ الإحساس بالفاجعة يصبح حقيقة".

ويضيف قائلاً: "هذه هي الأحداث المروعة التي حصلت في حلب في تلك السنة. في فترات غنى حلب كانت بضائع الهند والسند وفارس تأتيها عن طريق البصرة وبغداد، وكانت لها علاقات دولية بمصر ومكة والقدس عن طريق دمشق، سهل حلب تحيط به على بعد عشرة أميال تقريبا سلسلة من الهضاب، بلا أشجار ولا زراعة، ولكنها تشكل مراعي سمينة للماعز والأغنام، يخترق المدينة نهر قويق ببطء وهدوء، ويتم تحويل جزء من مائه لسقاية الحدائق والبساتين المحيطة. في الصيف يقل ماؤه بل ويجف أحيانا، وفي الشتاء إن كانت الأمطار وفيرة يتخذ شكل نهر رائع، حيث تأتي إليه آلاف اللقالق تملأ شطآنه وحدائقه".


الإقامة في حلب

يلفت الرحالة السويسري النظر إلى أن "التجار الأجانب يفضلون الإقامة في حلب على باقي مدن الإمبراطورية العثمانية لما تتمتع به من أمن وأمان، يعيشون في رغد وبحبوحة". ويضيف واصفاً الخضرة في المدينة: "على الهضاب الثماني التي تضمها المدينة ترتفع الجوامع والمآذن والقباب، وعلى أكبرها انتصبت قلعة حلب الشهيرة بجلال تبدو من فوق أسطح العمارات وتمنح العين منظراً رائقاً.. أشجار السرو والحور تنافس العمارات طولاً، ويحدثونك عن حدائق حلب بطرب وافتتان التي تقدم واحة ساحرة بعد شقاء يوم متعب، هنا على حصير في ظلال روائح عطرية، وصوت خرير السواقي، وصوت تغريد العنادل، ضفتا النهر مزروعتان بالكرمة والزيتون، وحدائق تين ورمان، الحدائق في سورية متشابهة، مساكب من الخضروات تزرع بين الأشجار المثمرة وعلى الأطراف نباتات عطرية، وتجد في داخلها أبراجاً خشبية مربعة للنواطير".

وحول ممالح حلب، يقول: "على بعد ست مراحل إلى الجنوب من حلب، يوجد وادي الملح الذي يمون حلب ومحيطها بالملح، وهو سهل تشغل جزء منه هضبات صخرية بسيطة الارتفاع، وفي المنخفض تتجمع سيول الشتاء وبعض الينابيع لتكون سبخة الجبول ممتدة ولكنها قليلة العمق، في الصيف عندما تجف أطرافها تتشكل طبقة ملحية سميكة نسبياً، ثم يأتي عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال في هذا الفصل فيأخذون هذه الطبقة الملحية التي تكون ممتزجة بالطين ويجعلونها في أكياس يتم نقلها أولا إلى قرية الجبول، حيث تتم تنقيته وفرزه في أنخاب، النخب الممتاز شديد البياض ومن نوعية ممتازة".


السفر إلى أنطاكيا

يتابع رحالتنا سفره من حلب إلى أنطاكيا، فيقول: "المرحلة الأولى من سفرنا إلى أنطاكيا لا يوجد فيها ما يثير الاهتمام، نسير وسط سهل ممتد وفسيح، حتى نصل إلى طريق في الجبال التي تفصل بين سهل حلب وحوض العاصي، توقفنا أمام قرية منعزلة، مقامة على سفح حاد، حتى خيل إلينا أنه من المستحيل تسلقه، ولكننا لم نجد صعوبة في تسلق الصخور. ليس بعيداً من هنا يوجد خان منعزل، هو المكان الوحيد الذي يستطيع المسافرون المتعبون أن يستريحوا فيه، وهو مقام كما جرت العادة بجانب أحد الينابيع أو في ظلال الأشجار، لكي يكون علامة ودليلاً للقوافل يمكن رؤيتها من بعيد، وخاننا هذا كان مقاماً في ظلال جميزة عظيمة، لا نرى هذه الشجرة الرائعة في أوروبا، تصل في حجمها إلى حجم أعظم سنديانة عندنا، يصل قطر جذعها إلى ثلاثين وأربعين قدما، وأغصانها التي تتفرع من الجذع ترتفع بمقدار عشرين ذراعا عن الأرض، ثم تتمدد عموديا لمسافة كبيرة، قبتها تشبه من بعيد قبة شجرة الزان، الظل الذي تشكله هذه الشجرة يمتد إلى مساحة واسعة حول الجذع، وإنه ليس نادرا أن ترى قافلة من ستين جملاً مع جماليها تستظل في ظل شجرة جميز واحدة".

ويصف القافلة التي سافر معها بقوله: "تستريح قافلتنا تحت هذه الجميزة الجليلة، ونحن نمضي الليل في الخان القريب، متدثرين في معاطفنا على حصيرنا وسجادنا الدمشقي. بينما يقوم مضيفنا بإعداد القهوة على جمر النار، ويقوم بخبز بعض الأرغفة على حجر محمى. الخان عبارة عن كوخ من الأحجار السليمة غير المشذبة، وضعت فوق بعضها البعض بلا جير يمسكها، وتترك في ما بينها ثقوب عديدة يمر منها ماء الأمطار والريح الباردة، الحجارة مسودة تماماً من الدخان الذي يتسرب عبر شقوقها.. الحيطان بارتفاع سبعة أو ثمانية أذرع، أغصان أشجار وجذوع صغيرة مربوطة في حزم تشكل السقف، الأرضية ليست مغطاة بأي شيء وهي حسب الفصل، ففي الصيف نقعة غبار وفي الشتاء حمأة طين، ولكن لنتذكر أننا رحالة، لنتناول وجبتنا بمرح ولكن ممنونين أننا لا ندفع إيجاراً لمبيتنا".

ويضيف: "قبل الفجر، أعطي الأمر بالرحيل، وبدأنا المسير في طريق حجرية صعبة المسلك في الجبال، أوصلتنا بعد ساعتين من المسير إلى أرمناز، قرية كبيرة تحتل موقعاً ساحراً، في وسط حدائق غناء، ثم تسلقنا الجبال التي تغلق السهل من الجهة الشمالية، حيث تكشف لنا عن مشهد غاية في الروعة، العاصي في مجراه كثعبان خرافي تبدى لأعيننا بنظرة واحدة، والآن بدأ طريقنا ينزل وصولا إلى قرية سلقين، تقع في جنوب السهل وتفصل بينها وبين النهر بضع تلال مرتفعة نسبياً.. قطعنا العاصي على جسر حجري ومع ذلك فلقد كان اسمه جسر الحديد؟! ولكن الاسم يعود للأبواب الحديدية القائمة على طرفي الجسر، وبعد مسير ساعتين على أرض غير سوية وصلنا إلى أنطاكيا".


وصف مدينة أنطاكيا

يقول الرحالة السويسري في وصف مدينة أنطاكيا: "هذه المدينة التي كانت تسمى ملكة الشرق، هي الآن منحنية ومتعبة حتى تكاد تلثم الغبار، قبل خرابها الأخير بواسطة الزلزال الذي ضرب المنطقة في 1822، كانت فيها تجارة محدودة لا تشبه البذخ الذي كانت فيه ومجدها القديم، لا زالت هناك بعض الجدران القديمة التي تذكر بالماضي ولكنها للأسف تكاد تكون أطلالاً. المدينة مقامة على قمة وعلى السفح الشمالي لهضبتين كبيرتين، وتمتد في السهل حتى ضفة النهر، كل هذا الفضاء كان محاطا بالأسوار، والأبراج المربعة القائمة على الأسوار على مسافات متفاوتة، وفي زاوية ملتقى الأسوار من منتصف المدينة تقريباً هناك خندق بعمق ثلاثين قدماً تقريباً، عمودي تماما، ويخيل إلينا أن هذه كانت رغبة أهل أنطاكيا في الأمان سبب كل هذه التحصينات، ولم يكتفوا بالتحصينات التي منحتها الطبيعة للمدينة، فقد أضافوا للخندق الذي من المستحيل تسلقه أصلاً، أضافوا له فتحات محصنة لرماة السهام ثم الجدار السميك جدا بارتفاع سبعين ذراعاً، عندما نرى كل هذه التحصينات، نفكر في الضعف الذي يستولى على أرواح البشر مع ذلك، هذه التحصينات العظيمة هل حمت فعلا أهل أنطاكيا؟!".

ويتابع الوصف: "من قمة الصخرة هذه الفتحات تبرز لنا مشهدا رائعا وممتدا، إلى الشرق السهل الواسع والبحيرة، ينتهي بالجبال البعيدة، في مواجهة المدينة ترتفع الجبال العظيمة، ومن هنا من تحت أقدامنا يجري العاصي الذي يسقي السهل ثم يتجه سريعاً إلى البحر في سيره الأفعواني دائما، خلف المدينة يبدو الجزء الأكثر إدهاشا إنه جبل الأقرع".

ويشير رحالتنا إلى أن أنطاكيا الحديثة تحتل جزءاً كبيراً من مكان المدينة القديمة، ويقول: "نرى فيها عدداً كبيراً من مصانع النسيج حيث يزرع القطن في أراضيها المحيطة، كذلك صناعة وتجفيف الزبيب، لا شيء من عظمتها القديمة، لا شيء من بساتينها ذائعة الصيت في محيطها الآن، أين صفوف أشجار السرو التي كانت تزرع من أجل الآلهة الوثنية؟! أين قصورها الفخمة؟!".

ويتابع حديثه: "قبل أن نتابع طريقنا، لنلق نظرة على ضفتي العاصي، لم نر شيئا كثيرا من مفاتن العاصي في سورية، النهر يجري لمسافة بين هضبتين عاليتين، بتعرجات كثيرة، وفجأة نراه محاطا بالمنحدرات والصخور، التنوعات الكبيرة والتدرجات في الألوان والظلال تكسبه منظرا شهيا، الأخضر اللماع للآس يشكل تناقضا رائعا مع الأحمر الغامق للحجارة التي تغطي الأرض، أشجار الغار، والتين، والكرمة البرية، الجميز، أشجار وشجيرات من جميع الأنواع مرشوقة هنا وهناك بوفرة كبيرة، يكون دربنا مغطى في بعض الأحيان باللبلاب، وجمال هذه المنطقة يتميز أيضاً بعدد من المغاور التي تمنح المشهد مسحة (براوية) فخمة، وتزيد من وحشية المكان أيضاً هذه الصخور المدببة على ارتفاع ثلاثمئة قدم، التي يحتك ماء النهر في جذعها بخرير عذب. ثم نصل إلى سهل مزروع، والذي تزينه مزارع جميلة وحومات ساحرة. وتستمر هذه المناظر الخلابة بالتناوب على ضفتي النهر حتى ندخل في سهل السويدية حيث يتسع النهر بصورة كبيرة ويبطئ من جريانه ويصبح مستقيما كأنه قناة ماء شقت بيد الإنسان".


مدينة السويدية

وفي وصفه لمدينة السويدية، يقول: "السويدية ليست الآن سوى مدينة صغيرة، مكونة من أكواخ متناثرة حول مزارع التوت والليمون، وتنتج البلدة كمية كبيرة من الحرير، وقد تكرر هذا المشهد في كل القرى التي اجتزناها حيث كنا نرى القرويين منشغلين بإطعام دود القز الشره لأوراق التوت الوافرة هنا، أو يقومون بفرز خيط الحرير عن الشرانق، على مسافة نصف مرحلة تقريبا نجد أطلال المدينة القديمة سلوقية والتي تدهشنا بسبب موقعها المتميز، على بعد نصف ميل تقريبا من البحر، أسوار المدينة القديمة بنيت فوق الصخور المدببة وعلى امتداد الجبال الممتدة في هذه الجهة البحرية، كما أن الأسوار زودت بأبراج عديدة في المناطق المرتفعة، لتحمي المدينة من جهة البحر، وتتصل المدينة بالبحر عن طريق قناة حفرت في الصخر، بعرض عشرين قدما تقريبا. الهضبتان المحيطتان بضفتي هذه القناة الخارقة للعادة مليئتان بمغاور جنائزية حفرت في الصخر، ومن هذه المغاور - الصخرية - المقابر، ما هو فسيح جدا ومتسع ومكون من عدد من الغرف الجنائزية تتصل في ما بينها بممرات نحتت داخل الجبل، ودعمت بعمدان نحتت في الصخر، كما نرى في العديد منها كتابات، وبقايا أطلال (خلوات)، وبقايا أديرة وكنائس".

ويضيف قائلاً في وصفه للمكان: "إذا تتبعنا العاصي إلى مصبه لن نجد على ضفتيه سوى مجموعة من الأكواخ، تحولت إلى متاجر، حيث هنا تأتي المراكب لتشتري الملح القادم من طرابلس، والرز القادم من اللاذقية، وحتى من دمياط، أما نزهتنا الثانية فستكون باتجاه بيت المي، على بعد عدة أميال من أنطاكيا وعلى الطريق المؤدي إلى اللاذقية، نسير بمحاذاة الجبال في درب مغطى بظلال أشجار التوت، هذه الدرب مشهورة جداً في تاريخ سورية بمدرجاتها الطبيعية، المتشكلة على سفوح الجبال، حيث تترقرق ببهاء عدة ينابيع عذبة تهبط في عدة اتجاهات ثم على بعد مائتي خطوة تقريبا تتجمع مكونة شلالين صغيرين ساحرين، ارتفاعهما ثلاثون قدما تقريبا، تسقط في حوض العاصي، وقد أقيم على هذان الشلالان عدد من المطاحن، وفي القمة نرى آثار عمارة كبيرة بائدة. حان الوقت لمغادرة هذا المكان، وسننضم غدا إلى القافلة المتجهة إلى الإسكندرونة".

المساهمون