الابتذال كظاهرة أدبية

الابتذال كظاهرة أدبية

18 أكتوبر 2018
رضا فلاح زاده/ إيران
+ الخط -

لا ينشأ الانقطاع أو الابتذال من غياب الحريّة، ولكن على الأرجح من الفرضية المتحجّرة للاستبداد. الابتذال ظاهرةٌ اجتماعية وثقافية تتّضح في الأدب أيضاً؛ ويجب معرفة الجذور والفروع التي تتطلّب تقليماً.

الابتذال الاجتماعي، على ما أعتقد، هرمٌ قاعدته تتّخذ حجماً بعدد الناس البسطاء، وقمّتُه بعدد القوى السلطوية. وبطبيعة الحال، لا ذنب للناس الذين قمعتهم الظروف المفروضة عليهم. "العبقريُّ" الذي يرتفع تدريجياً من قاعدة الهرم الاجتماعي، ومن أيّة طبقة يمرّ، فإنَّه يرى مستوى ابتذال الطبقتَين السابقتَين اللتَين كان فيهما هو أيضاً، ويُصبح على معرفة بذلك المستوى الذي لم يكن يرى سوى جزءٍ منه حين كان فيه. وعندما يصل إلى نهاية المعرفة بتلك الطبقة، فإنه يصل إلى قاعدة أعلى والتي هي أيضاً قاعدة للطبقة السابقة. فقط عليه أن يتجاوز التركيبة الجديدة التي لا تزال لها زوايا وأسطح غير معروفة؛ حتى يصبح ملمّاً فعلاً بها ويستمر إلى قمّة الهرم.

ربما في مجتمعٍ غارق في الابتذال، يوجَد ثمّة عبقريٌّ تمكّن من زيادة الوعي والمعرفة بالمجتمع وهو محاطٌ بالابتذال المحيط بعصره. والتخلّصُ من هذه الحالة الشاملة، لا يمكن إلّا بالذكاء والموهبة.

تصوُّر هذا الهرم والصورة والطبقة المتعدّدة التي تحتضن مجموعةً من المعارف والقيم ومستويات التطوّر الاجتماعي والثقافي له أثر مفيد، وقبولُه لا يمنع الوهم. سأشرح ذلك: عادةً في المجتمع، عندما يتعلّق الأمر بالابتذال، فإن أوّلَ ما يفعله الناقد للحالة المبتذَلة هو أن يعتبر نفسه خارج تركيبتها التي يتوهّم أنه لا يمكن أن يكون جزءاً منها. ومن الإنصاف أن نعترف بأن ناقد الابتذال لا يعرف إلّا مستوى الابتذال الذي عاش فيه، وليس الدرجات التي مرّ بها أو تنتظره في المستقبل. يُمكن للعقل الخادع، أو سوء حالة التفكير والحكم في أي مجتمع، أن تغذّي هذا الوهم المضحِك.

لذلك، فإن غياب الحريات المتنوّعة واستبدال التحرّر السلبي الخاطئ يخلقان الرقابة والسيطرة والمواقف الغريبة، ثم تأتي الرقابة الذاتية: تحلّ لغة الكناية مكان الفكر والرؤية الصريحَين، وتأخذ الحياةُ المجازية مكان الحياة الحقيقية، ويدخل الناس في علاقات غامضة وحالات وهمية وتواصُل غير دقيق.

لفترة من الوقت، كنتُ قلقاً بشأن ازدهار بعض الأعمال المتواضعة على مستوى المجتمع وتشجيعها من لدن الأجهزة والأنظمة التي تخلق لنا أناساً يحظون بالجوائز والضجيج، أو تُحدّد لنا روائع بخداع خفي. ثم رأيتُ أننا نسينا أنَّ التاريخ يعيد نفس الكرّة.

هناك رجلٌ ساخر في مكان ما في رأسي نهرني: "ما هي علاقتك بالأمر. اشتغل على عملك!". سألتُه: "في هذه الحالة؟ وفي ظروف النشر والتوزيع والنقد هذه؟". قال: "اعتبِر أنك تعيش قبل غوتنبرغ. ألم تقُل إن هناك إجباراً داخليّاً يفرض عليك الإبداع. إذن اكتُب ولا تنشُر. يكفي أن تكون أنت جمهورَك المتلقيّ. إذا كنت تتمتّع بالإبداع مثل ذلك الجد الكريم، فاكتُب لظلّك دون أي هاجس للشهرة. في هذه الحالة، من الممكن أن تتحدّد عوامل الرقابة والرقابة الذاتية والشهرة المفروضة على الأطر والقوالب. وعندما يحين الوقت، سيجري نشر كلِّ شيء، مثل ما جرى لـ كاربولجاكوف وبرودسكي".

قلت: "هذا سلبي ومرير". قال: "إذا كنتَ نشطاً، فإن الفضاء الثقافي السلبي سيرفضك تدريجياً كعضو غير منتمٍ إليه. ولكن البيئة الثقافية النابضة بالحياة والتي تحترم الكرامة الإنسانية والحريات اللازمة لخلق العمل الفني الكامل هي الأساس لنشر الأعمال الفنية. ولكن لمَ يجعل غيابُها العقلَ خارج الإبداع؟ الكتابة وانعكاس صوت العقل وصدى المجتمع شيء ونشر إنتاجك شيء آخر. عند البعض يتمُّ دمج هذين الاثنين معاً".

قلت: "ولكن ماذا عن الناس والمجتمع والأدب والنمو الثقافي ونقله؟". لكن ذلك الساخر ضحك بسخرية، ما جعلني أتوقّف عن الحديث. وعندما رآني صامتاً، قال: "هذا لا يعني الاستسلام للملل والتوقّف عن العمل. عدم الكتابة إغلاقٌ للعقل يتبعه عدم التفكير"، وتابع: "الفنّان الحقيقي يكتب لمغامرته العقلية. ثِق في الناس التاريخيّين. الطغاةُ فقط يرونهم بسطاء وصامتين".

* كاتب وشاعر إيراني، ترجمة من الفارسية: حمزة كوتي

المساهمون