وضْعُ الصراع في سياقاته

وضْعُ الصراع في سياقاته

24 أكتوبر 2023
أطفال في إحدى مدارس مخيم خان يونس في غزة، أول أمس الأحد (Getty)
+ الخط -

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.


في الوضع الآني المتمثّل بالعدوان الإسرائيلي الوحشيّ على قطاع غزّة، والذي يُنذر بتنفيذ خطّة كانت مبيَّتة منذ زمن؛ وهي تهجير الفلسطينيّين خارج أرضهم وإحداث نكبة أُخرى، تقف الثقافة العربية، ككناية عن العاملين في الحقل الثقافي، ضمن الجدول الزمني الحالي والإمكانيات المتاحة، أمام مسؤولية الاستمرار في كشف ما يحدث على الأرض وإيصاله إلى العالم كلّه، خاصّةً أنّ جزءاً كبيراً من وسائل الإعلام العالمية يغيّب الكثير؛ ففي الأيام الأُولى لعملية "طوفان الأقصى"، مثلاً، غاب ذِكر وجود عملية عسكرية على ثكنات ومراكز الجيش الإسرائيلي في منطقة غلاف غزّة عن وسائل إعلام عديدة لم تذكر إلا تعرُّض بعض الجنود الإسرائيليين إلى "إطلاق نار".

في نفس الوقت، لا يجب على المثقف العربي أن يشعر بوجوب التبرير الأخلاقي لكلّ فِعل يحدث على الأرض من طرف المقاومين، بل عليه، وهنا المهمّة الأصعب، أن يؤكّد دائماً السياق الأوسع والتاريخي للصراع، وأن يقف بصلابة أمام محاولات حرف النقاش والأخبار نحو جوانب جزئية أخلاقية وجمالية محضة. والإنسان المثقّف صاحب الفكر هو الأقدر على رؤية الصور الكلّية وترتيب جزئياتها ضمن أولويات وثانويات، مركزيات وطرفيات، وشرحها بطريقة صادقة لا تكذب ولا تُدلّس ولا تغفل التفاصيل، ولكنها لا تسمح أيضاً بالانجرار نحو التفاصيل الصغيرة التي تطمس السياق الأوسع والصورة الكاملة.

التشابك الحتمي بين مصير الإنسان ومصير الثقافة

ولكي تكون الثقافة أداة تحرُّر وتحرير، يجب أن تعمل على الإنسان والأرض معاً، لأنّ الإنسان مشروع مستمرّ لا ينتهي، والأرض حامل لهذا الإنسان. من دون الأرض لا وجود للإنسان إلّا كظاهرة عابرة لا يُمكن لها أن تُحقّق التراكم الثقافي والحضاري... من دون الإنسان لا حياة بالمطلق. فالثقافة تُحرِّر الإنسان وتتحرَّر هي نفسها به. لا أستطيع إلّا أن أرى العلاقة الدائرية بين الإنسان والثقافة؛ فالإنسان يتحرّر بالثقافة من الخوف ويُحقّق من خلالها وجوده الشخصيّ، وهو أيضاً مسؤول عن تحرير الثقافة من الخوف المتراكم فيها. لا يُمكن الحديث هنا عن سابق ولاحق، وإلّا أصبحنا نقف أمام معضلة "من أوّلاً البيضة أم الدجاجة؟"، ولكن المهمّ أن نؤكّد التشابك الحتمي بين مصير الإنسان ومصير الثقافة. 

لا يُمكن لإنسان غير حرّ أن يُحرّر الأرض ويصنع منها وعليها شيئاً. ويمكن القول إنّ فعل المقاومة في العموم هو فعل إيمان بالذات من نوع ما، مهما كان منغرساً في قيم دينية أو ما ورائية. والأمل دائماً ينظر إلى أن يزيد إيمان الإنسان بذاته من دون أن يحطّم كلّ قيمة عليا تتجاوز ذاته، كما حدث في كثير من نواحي الثقافة الحداثية في الغرب.

أمّا مواجهة الإعلام الصهيوني المدعوم من الإمبراطورية العالمية، فهي مسألة عمل جبّار على مستوى وطني. مشاريع المواجهة الكبرى هي مشاريع وطنية قومية بامتياز، لأنها مشاريع استراتيجية طويلة الأمد تحتاج إلى إنفاق وتخطيط متواصلَين. وهنا يجب أن تكون الثقافة العربية مشروعاً ذا أولوية للدول العربية؛ فالثقافة العربية تحتاج إلى أجيال جديدة تحملها، أجيال تتعلّم في مدارس جيّدة تعتني بالثقافة العربية، باللغة والأدب والفكر، وتُشجّع على الإبداع وعلى الخروج من دائرة التقليد التكراري من جهة، ودائرة التبعية للخارج من جهة أُخرى. يجب أن تتحوّل الثقافة العربية إلى مشروع حياة خلّاقة، ومن دون هذا لن يرى العالمُ الثقافةَ العربية إلّا بوصفها، في أحسن الأحوال، حاملاً لتقاليد قديمة مثيرة للفضول، تماماً كما يُنظر إلى الثقافة الهندية القديمة المكتوبة بالسنسكريتية.

إنّ جزءاً كبيراً من الدعم الشعبي لـ"إسرائيل" حول العالم لا يستند إلى أسسٍ دينية صهيونية، بل على اعتقاد الكثير من الناس العاديين بأنّ "إسرائيل" دولة عصرية وحديثة ومنتجة للثقافة والجمال، ويمكن لهم قضاء عُطَل رائعة فيها! وعلى الثقافة العربية أن تُظهر للعالم أيضاً أنّها ثقافة عصرية.

يجب أن يُنفق على الترجمة وعلى الصحف والمجلّات العربية الناطقة بلغات أُخرى - هذا عملٌ يجب أن تدعمه السفارات في الخارج (هل أسمع قهقهة ساخرة؟)، وينبغي أن يكون هناك حضورٌ عربيّ يمنح المراقب الخارجي شعوراً بوجود ثقافة لا تستحقّ الاكتشاف فحسب، بل تستحقّ الدفاع عنها.

ولكن يجب الاعتراف بأنّ القوّة الثقافية لا تنفصل عن القوّة السياسية والعسكرية و/أو القوّة الاقتصادية المُنتجة؛ ففي الغالب، يتماهى الناس مع الأقوياء ذوي الحضور المثير للإعجاب الذي يفتح لهم آفاقاً لوعي مختلف.


* شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد

هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الثاني من الملفّ: اضغط هنا

المساهمون