نيقولاي نيقولايفيتش ليسوفوي.. مصير الإرث الروسي في الشرق الأوسط

نيقولاي نيقولايفيتش ليسوفوي.. مصير الإرث الروسي في الشرق الأوسط

15 يونيو 2022
رسم توضيحي للقدس من القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

صدرت حديثاً عن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" النسخة العربية من كتاب "الوجود الروحي والسياسي الروسي في الأرض المقدسة والشرق الأوسط (في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)" للمؤرخ الروسي نيقولاي نيقولايفيتش ليسوفوي، بترجمة مسوح مسوح ومراجعة بشرى الحلو.

يسرد الكتاب، بتفاصيل دقيقة، نشاطات نصف قرنٍ من العمل الدؤوب لرجال الدين الروس من أجل بناء وجود أرثوذكسي في الأراضي المقدسة، ويبحث انتظام هذا العمل الذي كان فرديًّا حينًا، وبرعاية أعلى المرجعيات السياسية في الإمبراطورية الروسية حينًا آخر؛ ومن ثمّ مأسسة ذلك كلّه في البعثة الروحية الروسيَّة إلى القدس، واللجنة الفلسطينيّة، واللجنة الفلسطينيّة التابعة لإدارة آسيا في وزارة الخارجية، والجمعية الإمبراطوريَّة الأرثوذكسيَّة الفلسطينيّة، والجمعية الروسية - الفلسطينية، في ظل الحكم الشيوعي. 

ويتناول الكتاب، أيضًا، مصير الإرث الروسي في الشرق الأوسط في القرن العشرين، وإعادة بعث نشاط البعثة الروحية الروسية والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في الظروف المعاصرة.

نشاطات نصف قرنٍ من العمل لبناء وجود أرثوذكسي في الأراضي المقدسة

تقترح الدراسة ثلاث مجموعات من العوامل: الدينية، والسياسية، والاقتصادية، حيث تُنسب العوامل الدينية إلى عاملين: العلاقات بين الكنائس داخل الوحدة الكنسية للكنيسة المسكونية الأرثوذكسية من جهة، وتطور الحج الأرثوذكسي إلى الأرض المقدسة من جهة أخرى. ويذهب إلى أن الوحدة الكنسية للكنيسة الروسية الأرثوذكسية مع كنيستَي القدس وأنطاكية، وغيرهما من الكنائس الأخرى، يمكن اعتبارها كلّها مؤشرًا لا علاقة له بالزمن أو "الموضة" أو الظروف السياسية.

وتُعتبر الحروب والنشاطات الدبلوماسية من العوامل السياسية، بحسب الكتاب الذي يلفت إلى أن العوامل الاقتصادية تتألّف من قوى عدة موجِّهة. أولًا، يدور الحديث عن المساعدات المادية التي كانت تقدّمها الإمارة، ثم القيصرية الروسية، وفي ما بعد الإمبراطورية الروسية، إلى البطريركيات الأرثوذكسية في الشرق الأوسط. وقد كانت هذه المساعدات تحمل أحيانًا طابع ضخٍّ مقطوعٍ من الدولة والكنيسة، وأحيانًا تأمين دخلٍ ثابت للبطريركيات الشرقية على حساب الممتلكات في القوقاز وبيسارابيا "مولدافيا" فيما بعد (وهذا أيضًا متعلق بالحروب والجهود الدبلوماسية).

ثانيًا، علينا أن نذكر المساعدات الإنسانية للعرب المحليين، التي كانت تجري في إطار النشاط الكنسي التنويري (المدارس التي أقامتها الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في الشرق الأوسط)، أو في إطار الدعم السياسي لهذه الدولة أو تلك، أو لأي حركات أخرى.

ثالثًا وأخيرًا، العامل الاقتصادي الأهم والأكثر توثيقًا هو ممتلكات الدولة والكنيسة والجمعيات في الأرض المقدسة. حقًّا إن الممتلكات غير المنقولة وما نما خلال 150 عامًا عليها، هي قاعدة للبنية التحتية القوية، لما يسمى فلسطين الروسية، تحدد الوجود الروسي في القدس وفلسطين وتثبته.

الصورة
غلاف الكتاب

ويرى أن المؤلّف أن زيارة بطريرك القدس ثيوفانيوس لروسيا، في عام 1619، شكّلت افتتاحًا للطريق نحو موسكو بالنسبة إلى كثير من الممثلين المهمين لكنيسة القدس. وتلخصت دبلوماسية ثيوفانيوس في أنه استطاع أن يعطي انطباعًا مفاده أنه، شخصيًّا، يتعلم لدى الروس ولا يتطفل عليهم بالتوجيه. كما كتب مؤرخ العلاقات الروسية مع القدس ن. ف. كابتيريف: "كانت الحياة الكنسية الروسية منذ منتصف القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن السادس عشر منغلقة على نفسها، وانعزلت عن الحياة الكنسية اليونانية آنذاك، وبذا أصبحت غير قابلة بقدراتها الخاصة أن تحل ما يعترضها من مسائل وقضايا. لذا كانت مضطرة إلى طلب المساعدة من الكنيسة المسكونية اليونانية". وفي نهاية القرن السابع عشر، كان من المهم والصائب ترشيح بطاركة القدس لمهمة الحَكم والمستشار حتى في القضايا السياسية.

ويبيّن أن العلاقات بين روسيا والشرق الأرثوذكسي شهدت في الفترة الأولى من المرحلة الإمبراطورية ضعفًا. وكان السبب هو الحروب الروسية - التركية الدائمة، التي استمرت في الواقع طوال القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر أيضًا. ولم تكن مصادفة أن يسمّي أحد أفضل المتخصصين بتاريخ الإمبراطورية العثمانية بحثه الواسع "إمبراطورية في النار"، وهو وصفٌ ينطبق على روسيا أيضًا.

ويقف الكتاب عند تعلّق انبعاث الجمعية الروسية - الفلسطينية في أواسط القرن العشرين بالتغيرات الجذرية التي حصلت في الشرق الأوسط. حيث جرى الإعلان في 14 أيار/ مايو 1948 عن دولة إسرائيل. وفي 30 تشرين الثاني/ نوفمبر، وصل إلى القدس أول طاقمٍ للبعثة الروحية الروسية. ثمّ صدر أمرٌ من مجلس الوزراء السوفياتي (رقم 175рс )، في 25 أيلول/ سبتمبر 1950، يقضي بعودة ناشطي الجمعية الفلسطينية، وبالتصديق على فروع ممثّليتها في دولة إسرائيل.

ويوضّح أن كل موجة نشاطٍ جديد للجمعية الفلسطينية ارتبطت بشكلٍ أو بآخر، بتغير الوضع في الشرق الأوسط، إذ ظهرت مرحلة جديدة في حياة الجمعية مع بداية السبعينيات من القرن العشرين. وبعد حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو 1967، قطع الاتحاد السوفياتي علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل. وغادر إسرائيل جميع ممثلي الاتحاد السوفياتي، ومنهم ممثّل الجمعية الروسية - الفلسطينية الذي كان يقيم، منذ آذار/ مارس 1951 حتى حزيران/ يونيو 1967، في مقر قيادة الجمعية، في مجمّع سيرغي في القدس. وكان لقطع العلاقات تأثيران في الجمعية الروسية الفلسطينية. أولًا، لم تعُد ممثلية الجمعية إلى عملها حتى ذلك الوقت. ثانيًا، طالب الجهاز الحكومي - الحزبي بنشر دعاية معادية للصهيونية. وعلى هذه الركيزة، انضمّ إلى الجمعية الروسية - الفلسطينية العديد من العلماء والإعلاميين المتخصصين بالتاريخ المعاصر لإسرائيل والشرق الأوسط، وبالحرب الأيديولوجية، ومن فرع موسكو للجمعية الروسية – الفلسطينية أيضًا، فضلًا عن قسم "العلاقات الأدبية بين الشرق والغرب".

وفي تسعينيات القرن العشرين، ظهرت موجة نشاطٍ جديدة متعلقة بإعادة العلاقات الدبلوماسية السوفياتية بدولة إسرائيل، والتغيير في المفهوم التقليدي للسياسة الخارجية في الحقبة السوفياتية. أمّا في الوقت الحالي، فيرأس الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية المؤرخ الروسي البارز، العضو المرشح لأكاديمية العلوم الروسية، ي. ن. شابوف، الذي انتُخب رئيسًا للجمعية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2003.

المساهمون