"نفسانيّون"... بحثاً عن عِلم نفس يُشبه مجتمعاتنا

12 يونيو 2023
علي الأطرش؛ أحد مؤسّسي "نفسانيون" (العربي الجديد)
+ الخط -

تتعدّدُ معاني كلمة "نفس" في معاجم اللغة العربية وتكثرُ دلالاتها: الروح، جملة الشيء وحقيقته، الدّم، الأخ، الغيب، جوهر الشيء وعينه... ويُقال: لكلّ إنسان نفسان؛ نفس العقل الذي يكون به التمييز، ونفس الروح الذي به الحياة. ولكن، كيف يمكن للإنسان العربي أن يشعر بنفسه، بذاتيته، وهو يعيش متنقّلاً، في وطنه، بين المشكلات، من شروق الشمس إلى غروبها: الضوء، الماء، الهواء، الخبز، التنقّل، المدرسة، الجامعة، البيت، إلخ؟ كأنهُ آلةٌ، جسدٌ معدنيّ، أو في أحسن الأحوال رأس- كرة بلّور. من أين لمثل هذا الإنسان الوقت كي يشعر بنفسه؟ ربّما، قد يكون أجدر أن نتساءل: كيف له أن يحبّ؟ أن يفكّر؟ أن يقرأ؟ أن يتأمّل؟ من أين له أن يحلم؟ وهل يقدر أن يخطّط للمستقبل؟

في 2017، أطلق علي الأطرش وهبة خليفة، مع مجموعة من المختصّين، مشروع "نفسانيون"، انطلاقاً من ضرورة وجود مركز نفساني يُعنى بقضايا وثقافة علم النفس عربيّاً، ويكون حجر أساس لما يمكن أن نسمّيه "علم نفس عربي". هكذا، لم يكن "نفسانيون" مشروعاً علاجياً بالمعنى المتعارَف عليه؛ أي تقديم الخدمات النفسية والعلاجية العيادية أو التدريبية للإنسان العربي، بل هو مشروعٌ علميٌّ وثقافي ومجتمعي، هدفُه الأساسي الوصول إلى كلّ فئات المجتمع، ونشر المعرفة والثقافة النفسية في المجتمعات العربية.

في لقائه مع "العربي الجديد"، يتحدّث الأطرش عن المشروع الذي تأسّس، مثلما يقول، لتوسيع آفاق علم النفس واستخداماته في لبنان والعالم العربي، والخروجِ به لمواجهة الاضطرابات والظواهر المجتمعية المَرَضية.



■ هل لك أن تُعرّفنا على مشروع "نفسانيون"؟

"المركز اللبناني للعلوم النفسية والاجتماعية - نفسانيون" هو مشروع علمي وحركة نهضوية مستقلّة، رؤيته الأساسية هي الوصول بالوطن والمجتمع إلى حيث يستطيع أفراده حلَّ وتجاوُز صراعاتهم وأزماتهم التي تمنعهم من التطوّر والابتكار والإبداع، وتعوق تقدّمهم، وذلك باستخدام علم النفس أداة لتحقيق هذه الرؤية.


■ ما الذي دفعكم إلى إطلاق المشروع؟

بدأت الفكرة عندما أردنا، كمؤسِّسين للمركز، أن نبدأ حياتنا المهنية خارج الجامعة. كنّا قد اتفقنا مسبقاً بأن نُحدِثَ تغييراً، وأن نترك بصمة بعملنا، اعتقاداً منّا بأنّ تخصُّص علم النفس هو من أهمّ الاختصاصات التي بإمكانها النهوض بالمجتمعات. منذ اللحظة الأُولى، وضَعنا نُصب أعيننا الحفاظ على العلمية والمهنية والإنسانية في رسالتنا.

معظم ما يُدرَّس في بلداننا جاهزٌ ومستنسَخ عن الغرب

عرفنا، منذ البداية، بأنّنا اخترنا الطريق الأصعب؛ الطريق المختلف وغير النمطي. لم نسلك الطريق المرسوم لنا مسبقاً؛ وهو أن نصبح معالجين نفسانيّين (مع التأكيد على أهمية العلاج النفسي)، بل قرّرنا كسر هذا النمط السائد في مجتمعاتنا العربية، وتوسيع آفاق علم النفس واستخداماته في لبنان، والخروج لمواجهة الاضطرابات والظواهر المَرَضية المجتمعية، كالتعصُّب والطائفية وغيرها، عبر تقديم المعرفة والثقافة النفسية لكلّ شرائح المجتمع وقطاعاته المختلفة، وإضاءة الطريق لهم، عبر امتلاكهم المعرفة الكافية عن مدى تأثير مُعاشهم اليومي وكلّ ما حصل ويحصل معهم في جهازهم النفسي، وفي قراراتهم ومستقبلهم وتطوُّرهم.


■ ما أبرز الصعوبات والتحدّيات التي واجهَت المشروع ولا تزال؟

منذ خطواتنا الأُولى للمضي في هذا الطريق، اصطدمنا بحائطٍ كبيرٍ وصلب، كان مثل صفعة قاسية أنذرتنا بواقع مجتمعنا المرير، بدءاً من بعض أساتذتنا الذين، عند عرْض أفكارنا ومشروعنا عليهم، كانوا كمن تملّكه الرعب الشديد، وأصبح لا يفقه إلّا ممارسة غريزة البقاء عبر سلوك عدائي ووحشي، ولم يكتفوا فقط برفض أفكارنا، بل سعوا جاهدين خلال كلّ هذه السنوات للقضاء على وجودنا.

عموماً، نحن لسنا معتادين في مجتمعاتنا على أفكار مثل "نفسانيون". ولهذا، وجدنا أنفسنا أمام عائق كبير هو الاستمرارية المادّية، خصوصاً في ظلّ الأزمات التي أصابت لبنان. كنّا أمام خيارَين: إمّا الحصول على التمويل والمِنح المالية من الجهات المُموِّلة العالمية، أو الصمود والمثابرة بالعمل الشاقّ والتمسّك بمبادئنا الأساسية؛ وهي الشفافية والمصداقية العلمية. وجدنا، عن تجربة، أنّ التمويل الخارجي يحدّ من حرّيتنا، وسلوكنا، وأفكارنا، ورؤيتنا. وعلى هذا الأساس خلقنا منظومة تطوّعية لديها شغف كبير بعلم النفس وبالتغيير نحو الأفضل.


■ ما أهداف "نفسانيون"؟

كان هناك دائماً هدفان نصب أعيننا للوصول إلى الرؤية التي وضعناها في "نفسانيون": الأوّل هو تعزيز قدرات وإمكانيات الزملاء في القطاع النفسي في لبنان والعالم العربي، وتمكينهم تقنياً من امتلاك كلّ ما هو جديد ومهمّ في علم النفس، وأيضاً العمل على إعلاء شأن ودور القطاع النفسي، عبر إبراز قوّته وإظهار ما يستطيع إنجازه في خدمة المجتمع.

أمّا الهدف الثاني، فهو نشر المعرفة النفسية وثقافة علم النفس بين فئات المجتمع اللبناني والعربي. كسَر "نفسانيون"، منذ تأسيسه، منظومة الاحتكار في التدريب النفسي، وقُمنا بابتكار وتنظيم مئات البرامج التدريبية التي قدّمها أهمّ المعالجِين والمحلّلين النفسانيّين، بالإضافة إلى ذلك، قام المركز بوصل النفسانيّين بأهمّ المحلّلين والمعالجين النفسانيّين في العالم، عبر تنظيم مئات الندوات والمحاضرات، وكان منصة للمَراجع العلمية الكبيرة، وجسراً علمياً يوصل المختصّين بهذه المراجع.


■ هل "نفسانيون" مشروع علاجي؟

هو ليس مشروعاً علاجياً بالمعنى المتعارَف عليه، ضمن النمط السائد، أي بمعنى تقديم الخدمات النفسية والعلاجية العادية أو التدريبية، بل نصنّفه كمشروع علمي ثقافي ومجتمعي عابر لكلّ المجتمع. وهدفه الأساسي هو الوصول إلى كلّ شرائح وقطاعات وفئات المجتمع العربي من أجل نشر المعرفة النفسية في كلّ القطاعات؛ كقطاع التربية والتعليم، والاختصاصات في العلوم الاجتماعية، والاختصاصات العلمية، والجمعيات والمؤسّسات الرسمية والخاصة، وأيضاً عملنا على تصميم برامج للفئات المهمّشة.


■ ما أهم أنشطة المركز؟

سأُحاول أن أوجز أنشطة المركز في ثلاثة محاور؛ الأوّل تعليمي وبحثي اختصاصيّ، شمل تنظيم ندوات توجيهية ومهنية لطلّاب علم النفس في لبنان والوطن العربي، إضافة إلى أنشطة مختلفة كتحليل الأفلام، ونوادي القراءة، وغيرها من الأنشطة العلمية.

أمّا المحور الثاني، فهو متعلّق بالفكر والمجتمع، عبر المؤتمرات المحلّية والدولية، كالمؤتمر الدولي الأوّل في 2021، والذي حمل عنوان "قلق في الحضارة"، واستضاف عدداً من أبرز علماء النفس والفلاسفة والفنّانين والصحافيين والمفكّرين، وفي مقدّمتهم المفكّر والعالم النفسي اللبناني مصطفى حجازي، والشاعر السوري أدونيس، والمحلّل النفسي الفرنسي سيرج تيسيرون، والمحلّلة النفسية المغربية حورية عبد الواحد، إلى جانب مختصّين وباحثين من لبنان والعالم العربي وأوروبا وأميركا وكندا. أمّا المؤتمر الدولي الثاني في 2022، والذي كان بعنوان "آغورا"، فقد طرحنا فيه سؤالاً فكرياً جوهرياً هو: كيف سيكون شكل العالم غداً؟ وشارك معنا عددٌ من أبرز المفكّرين وعلماء النفس في العالم؛ كالفيلسوفة والمحلّلة النفسية الفرنسية صوفي ديمي جولا، ومؤسّس العلاج النفس-جسدي التكاملي الفرنسي جان بنجامين ستورا، ورئيس مركز "تبيين" البروفيسور عبّاس مكي، إضافة إلى العديد من المحلّلين والمعالجين والخبراء من لبنان وسورية ومصر والمغرب وإيطاليا وفنلندا وفرنسا وبريطانيا وأميركا.

باتت معارض الكتاب العربية أكثر اهتماماً بكُتب علم النفس

المحور الثالث هو ثقافي بامتياز؛ ويتعلّق بنشر ثقافة علم النفس في العالم العربي، عبر التوعية والتثقيف، من خلال الإصدارات الثقافية التي قام المركز بنشرها، ولا سيّما كتاب المحلّل النفسي مصطفى صفوان بعنوان "ما بعد الحضارة الأوديبية"، كذلك قمنا بنشر كتاب "نشوة الجسد" لحورية عبد الواحد، وهكذا كرّت مسبحة النشر وقمنا، بالشراكة مع "دار النهضة العربية"، بإصدار ترجمات لأربعة كتب مهمّة: "نفسية الشرقيّين" للمحلّل النفسي كريم جبيلي، و"التحليل النفسي العصبي" لجان بنجامين ستورا، وكتابا مصطفى حجازي "الفحص النفسي" و"الإرث النفسي للحروب". 


■ إضافة إلى تلك الأنشطة، أطلقَ المركز مبادرات عدّة. هل لك أن تُعرّفنا بها؟

كان المركز حاضراً خلال الأزمات المتعاقبة التي ضربت لبنان، بداية من اندلاع الثورة وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى انهيار الليرة اللبنانية والأزمة الاقتصادية؛ حيث أحدث منظومة للتدخّل والاستجابة، عبر برامج للدعم؛ مثل برنامج "عبور"، الذي قدّم دعماً نفسيّاً للمتضرّرين من صدمة انفجار مرفأ بيروت في 2020. وفي 2019، أطلق مبادرة لدعم مرضى السرطان نفسياً. "تدعيم" هو مشروع آخر أطلقه المركز للدعم المتكامل، وهو ثمرة اتّحاد وتعاون بين مختلف القطاعات في لبنان، على شكل مجموعات تطوّعية مُنتشرة في مختلف المحافظات، هدفُها تقديم المساعدة الضرورية والدعم والإغاثة للعائلات المتضرّرة من الأزمات المتعاقبة، ولا سيّما الأزمة الاقتصادية، وذلك عبر منظومة متكاملة من الخدمات التي تحافظ على البنية الاجتماعية والصحية والنفسية للعائلة اللبنانية. حملة "الآخر هو أنت لمواجهة التعصّب والطائفية"، هي أيضاً واحدة من الأنشطة التي قام بها المركز عقب "أحداث الطيونة" عام 2021، والتي كادت تؤدّي إلى حرب أهلية أُخرى.

نفسانيون - سفلية
من مبادرة أطلقها المركز في 2019 لدعم مرضى السرطان نفسياً

ومع هجرة الكثير من اللبنانيّين إلى الخارج بسبب الأزمة الاقتصادية، جاءت حملة "باقي بلبنان" بهدف تحفيز الشباب وتشجيعهم على البقاء في وطنهم، والنضال للخروج من الأزمة. ضمن هذا المعنى صار "نفسانيون" مرجعية نفسية في العالم العربي، لا سيّما أنّنا حاولنا، منذ البداية، أن نستقطب المهتمّين والباحثين والطلّاب في لبنان والبلدان العربية، إضافة إلى العرب المنتشرين في كلّ العالم، والذين يواكبون المركز ويشاركون في مختلف البرامج التدريبية والأنشطة، ومن بينها برنامج "علم النفس المرضي الأساسي"، الذي يقدّمه عبّاس مكّي ويشارك فيه ألف ومئة زميل من لبنان والبلدان العربية. هكذا كانت إنجازات "نفسانيون" ومصداقيته العلمية محطَّ أنظار العديد من التيارات والمراكز والجمعيات النفسية والجامعات في لبنان والمنطقة العربية، حيث وصلتنا رسائل لعقد شراكات وتعاون ومشاركة في الكثير من المؤتمرات والمشاريع. ومؤخّراً، بدأت الجامعات في الدول العربية إرسال طلّاب الدكتوراه إلى المركز في زيارة تربّص علمي، يطّلع خلالها الطالب على أنشطة المركز والمكتبة والفعاليات المختلفة.

يستعد المركز لإطلاق مجلّة علمية نفسية بعنوان "نقلة"

نتطلع اليوم في "نفسانيون" لعقد شراكات محلية وعربية وعالمية من أجل التعاون العلمي الفعّال. ونود في هذا الإطار أن نُشير إلى أننا بصدد التحضير لمؤتمرنا الدولي الثالث، ونستعد لإطلاق مجلة علمية بعنوان "نقلة"، هي ثمرة أفكار طُرحت مع علماء نفس ومفكّرين عرب وأجانب.


■ هل توجد ثقافة علم النفس في العالم العربي؟

في السنوات العشر الأخيرة، انتشر علم النفس كثيراً في العالم العربي، وخاصّة خلال وبعد أزمة جائحة كورونا. هناك دول عربية انتشر علم النفس والتحليل النفسي فيها منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكنّه ظلّ مقتصراً على بعض الجامعات والمراكز والأفراد. أمّا اليوم، وعلى الرغم من التخلّف والجهل، ينتشر علم النفس سريعاً في كلّ الأقطار العربية من السودان إلى الخليج ومصر ولبنان وسورية والأردن، ولا ينتشر فقط على صعيد الشرائح التي درست الاختصاص؛ بل بدأ يطاول كلّ الفئات والشرائح المجتمعية، بفضل التطوّر الرقمي ووسائل التواصل.


■ هل يمكننا الحديث عن علم نفس عربي، ومن هُم أبرز مفكّريه إن كانت الإجابة بنعم؟

من خلال تجربتنا في "نفسانيون" وسعيِنا الدّائم للتواصُل مع المَراجِع العلميّة العربية في علم النفس، تبيَّن أنَّ لدينا في العالم العربي علماء نفس ومُحلّلون نفسانيون مهمّون: مصطفى زيور، ومصطفى صفوان الذي رحل مؤخّراً تاركاً وراءه إرثاً علمياً كبيراً، والراحل سامي علي، ومنير شمعون، وعدنان حب الله، ومصطفى حجازي، وعبّاس مكّي، ونزار الزين، وحسين عبد القادر، وحورية عبد الواحد...

نفسية الشرقيين - كادر
من إصدارات المركز

قد يكونون قلّة، لكنّهم جميعاً مفكّرون كبار في علم النفس في عالمنا العربي وخارجه. أمّا في ما يخصّ الحديث عن علم نفس عربي، فيمكننا القول، من خلال تجربتنا في المركز، إنّ علم النفس في وطننا العربي لا يزال سجين الأنظمة الدينية والسياسية، ولا يزال "يُستنسخ عن الغرب" كما يقول مصطفى حجازي. وإذا وُجِد علم نفس في العالم العربي، فبكلّ تأكيد، هو لا يشبه مجتمعاتنا وخصائصها، وكلُّ ما ندرسه في الجامعات وخارجها هو مُعلَّب وجاهز.


■ هل توجد مكتبة عربية مرجعية مختصّة في علم النفس؟

نعم، هناك العديد من المكتبات المرجعية في علم النفس، بعضها إلكتروني يضمّ آلاف الكتب المترجمة إلى العربية، والآخر ورقي مثل "مكتبة الأنجلو المصرية" التي تضمّ آلاف الكتب القيّمة والاختبارات والمقاييس النفسية. هناك أيضاً مكتبة "نفسانيون"، والتي أسّسناها بالشراكة مع "دار النهضة العربية"، في محاولة لإفادة المهتمّين بعلم النفس، والقارئ العربي بشكل عامّ.

عموماً، صارت العديد من المعارض في الدول العربية تهتمُّ بكتب ومراجع علم النفس وتُخصِّص مكاناً خاصاً لها.

المساهمون