من حال الشوك إلى حالة القرنفل

من حال الشوك إلى حالة القرنفل

17 ديسمبر 2023
يحيى السنوار في لقاء مع أساتذة الجامعات في غزة، 5 حزيران/يونيو 2021 (Getty)
+ الخط -

يتكلّمون عن يحيى السنوار بالهمز واللمز والمواربة، طوراً، وتارةً بالهجاء الصريح، عبر صحفهم وبقية وسائل إعلامهم المسمومة، التي دأبت على وصف الشهداء، في كلّ خبر، منذ بداية الحرب، بـ "القتلى"، وعلى التركيز على خساراتنا، والحرص على وضع أعداد الشهداء، شماتةً، في المانشيتات.

يتكلّمون عن ابن مخيَّمِي (يصغرني بسنتين)، وأعرفه منذ أوّل الطفولة، وكانت أمُّه صديقةً لأُمّي (رحمهما الله)، وهو الأديب الذي قام بمغامرة عظيمة، لا على ورق المخيال، إنما على أرض الميدان، فهزّت أركان المنطقة وزعزعت استقرار بداهات الغرب، شعوباً وحكومات.

يتكلّمون عنه وكأنه قاصر سياسي، أودى بأهل القطاع إلى التهلكة. هُم القاصرون، في دينهم وفي وعيهم، وحتى في إنسانيّتهم.

لقد درسَ أبو إبراهيم خفايا عدوّه في المعتقل، وبِلغتهم هذه المرّة، فأيقن البداهة الواجبة: إمّا أن تعرف عدوّك وتفهم جميع نقاط ضعفه، بشكل علمي لا انفعالي، فتعمل بما حصّلت من ثمين العلم والمعرفة، وإمّا لا مستقبل لك ولا لأجيال تعقبك، من شعبك... قادمين من المجهول إلى المجهول، ومنذورين طوال حياتهم للعراء الكوني.

لقد عاش الرجل طفولةً نبيلة شديدة القسوة (أعرف كلّ تفصيل من تفاصيلها)، مثل كلّ طفولات جيله في مخيَّم خانيونس، وأبى إلّا أن يُغيّر الوضع، حتى لو صُمِّغ بـ"الاستحالة"، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ومَن لا يصدّق، فليرجع لقراءة كتاب سيرته الوحيد "الشوك والقرنفل"، لعلّه يجد بين غلافَيه، بعض تلك الإرهاصات التي جعلت من الطفل والشاب والكهل والشيخ يحيى، على ما هو عليه اليوم.

هذا الكتاب المسكون بألمنا وأملنا الجماعيَّين، كآخر شعب يأنف أن يظلّ رهينة لهيمنة أخسّ احتلال عسكري وأبشعه في جهات الدنيا الأربع.

ستأخذنا، ولو بعد حين، من حال الشوك إلى حالة القرنفل

كتب أبو إبراهيم شهادته هذه (الحقّ أنّها شهادة جيل كامل، ممّن وُلدوا في مخيّمات اللاجئين بالقطاع، كأول جيلٍ بذرَه الآباءُ، بعد النكبة).

هذا الجيل الذي عاش الإدقاع، لا الفقر، في كلّ تفصيل من عمره، والذي لو قُدّر له عالِمُ أنثروبولوجيا شرعي مختصّ بفحص أعمار المهاجرين (كما في غرب أوروبا)، لقال لنا: إنّ المعاناة مطبوعة على عظامهم داخل اللحم العاري المصاب بسوء التغذية.

كتب أبو إبراهيم كتابه داخل السجن، قبل نحو عشرين عاماً، وبين صفحاته نتعرف حياة ذلك البطل الشعبي (أعطاه اسم: أحمد)، وكيف نشأ وكيف عاش (السيرة مكتوبة بقالب روائي)، وكيف أنّه لا يتخلّى عن المبدأ، ولو كان على حدّ المقصلة.

الصورة
غلاف رواية يحيى السنوار
غلاف رواية يحيى السنوار

لقد زرتُه مهنّئاً عندما خرج من المعتقل النازي، عام 2011، بعد نحو ربع قرن من الاعتقال في زنازين منفردة (حكم عليه بالسجن "أربعة مؤبّدات": تساوي 420 سنة!)، وحذّرته من الاغتيال، كما فعلوا مع العشرات من قيادات تنظيماتنا المسلَّحة، وعلى رأسها حماس، فردّ: هو قدَري وأقبل به، فهل ثمة خيرٌ من الشهادة؟

أجل: هذه كلماته لا أنساها، وهو يعنيها حرفياً، فكيف يتخرّص السفهاء من صحاري الغاز والكاز وانعدام الرشد، وقامة الرجل أعلى كثيراً من جرمهم القزم؟

كيف يتخرّص أولئك الفقراء الذين لا يملكون شيئاً خلا المال، عن رجل جاء من قاع المخيّمات، لينهي ظاهرة المخيمات، في الزمن الأقسى، آنَ تكالبت علينا جميع الأمم، بما فيها أمّتنا التي نخَر العجزُ مفاصلها؟

بوركت يا من سوف تأخذنا، ولو بعد حين، من حال الشوك، إلى حالة القرنفل.


* شاعر فلسطيني مقيم في بروكسل

موقف
التحديثات الحية

المساهمون