مع غزّة: منير السعيداني

مع غزّة: منير السعيداني

02 فبراير 2024
منير السعيداني
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "من أجل علوم إنسانية واجتماعية ناقضة للاستعمار"، يقول الباحث التونسي في حديثه إلى "العربي الجديد.


■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- ما يشغل بالي فعلاً هو كيف يُمكن أن تتحوّل حملة التضامن العالمية مع شعبنا في غزّة إلى اشتباك فعّال مع سلطات البلدان التي تُعين على العدوان بطريقة أو بأُخرى. لقد ارتقى التضامن إلى إسناد من خلال التحرّك القانوني والقضائي الدولي الذي قادته جنوب أفريقيا، ولكنّنا في حاجة إلى المزيد؛ بحيث تتحوّل آلية الإدانة والتضامن والإسناد إلى آلية ملاحقة فعّالة ضدّ مُقترفي الإبادة، لا الصهاينة فحسب، بل ضدّ شركائهم أيضاً من السياسيّين والإعلاميّين والشخصيات العامّة في أيّ بلد. أظنّ أن المُضيّ في توسيع آلية المحاسبة القانونية على أساس القانون الدولي الإنساني المانع لجرائم الحرب والإبادة يُمكن أن يؤدّي بعض هذا الغرض.


■ كيف أثّر العدوان في حياتك اليومية والإبداعية؟

- حصل التأثير من جانبين. جانب يعود إلى تبنّي نوعٍ من الانتماء إلى فلسطين منذ سنوات شبابي الأُولى، وجانبٌ يعود إلى أخذ النضال الوطني الفلسطيني حيّزاً مُهمّاً في اهتماماتي البحثية. يظهر التأثير في أنّني أُخصّص منذ بداية العدوان يومياً حيّزاً للاطّلاع على تفاصيل مجريات العدوان والمقاومة الباسلة التي تواجهه، وأُخصِّص وقتاً أطول وجهداً أعمق للتفكير في ما يحدث. وقد مكّنني هذا من تقديم محاضرات ومداخلات وكتابة نصوص أعتبرها مساهمة منّي في المعركة.

صنع الغزّيون أُفقاً للبشرية علينا الارتقاء إلى مستواه


■ إلى أي درجة تشعر بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- وضعتُ واحدة من محاضراتي الأخيرة تحت عنوان "مجتمع المقاومة وثقافتها". المقصود بالثقافي واسع في هذا العنوان؛ حيث يشمل الكتابات التي لا تُعتبر عادةً من جنس الإبداع في مَعنييه الأدبي أو الفنّي الضيّقين. إبداع أفكار جديدة في اتجاه مزيد من الوعي بضرورة إنتاج علوم إنسانية واجتماعية ناقضة للاستعمار، كما حاولت أن أُبيّن في محاضرة أُخرى ألقيتها أخيراً جزءاً ممّا هو مُمكن وفعّال اليوم، في سياق هذه المعركة.

 
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- الحقيقة أنّني جرّبت كلّ هذه الأشكال ممّا يمكن أن نسمّيه الاشتباك مع الواقع من أجل تغييره. لاختيار هذا الشكل أو ذاك ظروف وعلل، وهي بطبيعتها متبدّلة. لو قُيّض لي البدء من جديد، فلا أظنّني أختار غير ما سرت فيه. أنا لا أقول هذا من باب الرضا عن النفس ولكن من باب القناعة بالحصيلة: كلّما خضت شكلاً وعشت من خلاله منعرجاً في حياتي، اغتنيتُ أكثر بمعارف وصداقات وأفكار عزّزت لديّ ثقتي بما تبنّيتُه، ويمثّل لي "إيتيقا" وجود وأسلوب حياة. 

 
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- من منظور إنسانيّ، أنا أرنو إلى أن ينتصر نضال البشرية من أجل عالم عادل ومنصف في استجابته لحاجات الإنسان التي يرى نفسه جديراً بها، ليس فيه ظلم ولا اعتداء، لا على الأفراد بوصفهم كذلك، ولا على المجموعات ولا على الأوطان والشعوب. أخيراً قلت في معرض ما قلتُ عمّا يحدث الآن في فلسطين إنّنا بلغنا مستوى من الاقتراب من مثل هذا العالم يمكن أن نسمِّيَه "العَتَبَة الغزّاوِيَّة"، بما يعني أنّنا بصدد منعطف في تاريخ البشرية أجد أنّه جدير بأن يُنعت على أنّه "المنعرج الفلسطيني"، وهو منعرج حاسم على طريق إعادة صياغة "إيتيقا" العيش المشترك الإنساني.

العتبة الغزاوية منعرجٌ لإعادة صوغ المشترك الإنساني  

■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- أودّ لقاء أوّل فلسطيني ارتقى إلى الشهادة وهو يقاوم الصهاينة ومخطّطاتهم الاستعمارية للاستحواذ على فلسطين. أنا لا أعرف عنه شيئاً، لا الاسم ولا إن كان رجلاً أو امرأة، ولا إن كان شابّاً أو كهلاً أو شيخاً، ولا إن كان مثقّفاً أو عديم المعرفة بالقراءة والكتابة، ولا متى ارتقى إلى الشهادة ولا في أيّ مدينة أو قرية أو بيّارة استشهد. ولذلك كان يُمكن أن يكون أو تكون أيّاً كان أو أيّاً كانت. ولكنّي أرغب بشدّة في لقائه لأسأله: متى تتوقّع أن ينزاح كابوس الصهيونية عنّا وعن الإنسانية جمعاء.

  
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- قد لا تكون هذه المعركة هي الفاصلة بينكم/ بيننا وبين الصهيونية وجرائمها ومجرميها، ولكنّكم من دون شكّ صنعتم لكم وللبشرية فيها أفقاً منيراً يمكن أن ننظر إليه بجلاء إذا ما ارتقينا إلى مستوى "العتبة الغزّاوية".


■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- قد لا تكون راضياً عما أدّيته في هذا المعركة، ولكن لا يزال أمامك الكثير لتفعله وتبدع فيه.


■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- أكتب لها ولأترابها رسالة حبّ بها وعدٌ بأن أبذل قصارى ما أستطيع من أجلها ومن أجل غزّة ومن أجل تحرير كامل فلسطين، من النهر إلى البحر.



بطاقة

باحث وأكاديمي تونسي مُتخصّص في عِلم الاجتماع، من مواليد عام 1958. يشغل رئاسة تحرير دوريّة "عمران" التي تصدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". عمل أُستاذاً لعِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعات تونسية منذ عام 2000، وحاضَر في جامعات عربيّة وأجنبيّة. صدرت له عشرات المقالات والكتب بالعربية والفرنسية والإنكليزية، من بينها: "الحالة الدينيّة في تونس 2011 - 2015: دراسة تحليلية ميدانية" (إشراف وتحرير، 2018)، و"سجلّات عِلم الاجتماع وسجالاته في تونس: وجوه ومسارات" (2023). له في الترجمة: "مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية" (2009) لـ دنيس كوش، و"ممارسة عِلم الاجتماع" (2013) لـ سيرج بوغام.

مع غزة
التحديثات الحية

المساهمون