مع غزّة: الطاهر لبيب

مع غزّة: الطاهر لبيب

08 ابريل 2024
الطاهر لبيب
+ الخط -
اظهر الملخص
- الطاهر لبيب يعبر عن خيبة أمله من خذلان العرب للقضية الفلسطينية ويؤمن بتحرر الشعب الفلسطيني، مشيرًا إلى الخوف من توالد وحشية الإبادة في غزة.
- يرى لبيب أن الإبداع يمكن أن يكون وسيلة لمواجهة الإبادة، مؤكدًا على أهمية إنتاج معنى يتحول إلى قوة تغيير وتعاطفه مع المبدعين الذين يواجهون صعوبات في التعبير.
- يفضل العمل الإبداعي كوسيلة للتعبير عن إنسانيته ويشدد على أهمية التغيير والتحرر، معبرًا عن إعجابه برمز المقاومة "حنظلة" ويؤكد على أهمية الفعل والتضامن في مواجهة الظلم.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء "واقعةُ الإبادة في غزّة تجاوزت كلّ الهواجس. لم يبق غير الخوف من توالد وحشيّتها" يقول الكاتب والأكاديمي التونسي لـ"العربي الجديد".



ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- إذا كان الهاجس، في معناه النفسي، قلقًا مما هو ممكن الوقوع، فواقعةُ الإبادة في غزّة تجاوزت كلّ الهواجس. لم يبق غير الخوف من توالد وحشيّتها. كان لي هاجس الخوف من أن يخذل العرب غزّة، ومن ورائها فلسطين. تبيّنت لي سذاجة هذا الهاجس. لقد خذل العرب "القضيّة"، أكثر مما تصوّر خوفي، بعد أن اهترأت في ألسنتهم، لكثرة ما ردّدوا أنها "قضيتهم الكبرى". الحصيلة إحساسٌ تراجيدي بمرارة العجز. لكن، ومهما كان غباء التاريخ العربي المعاصر، ومهما كان لؤم القيم "الكونيّة"، فيقيني، من التاريخ، أن شعبًا كالشعب الفلسطيني لا بدّ أن يتحرّر من الاحتلال، يومًا. إن كان في هذا من هاجسٍ فهاجسُ الوقت والثمن. 


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- يوميّاتي تغيّر إيقاعها. غيّرتها متابعة أخبار غزّة. غيّر نكهتها ألمُ المَشاهد. تغيّرت فيها واكتأبتْ مواضيع اللقاءات. مال ما أكتب إلى الارتجال والمقاطع. تعطّل ما كنت أكتب عن اللّامعنى العربي، بالرغم من أنّ ما يحدث يبيّن إلى أيّ حدٍّ يجد العرب صعوبة في إكساب وجودهم معنى. 


إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- الإبداع، في المطلق، إنتاج معنى، والمعنى المطلوب إنتاجه، في الوضع العربي الراهن، هو القابل للتحوّل إلى قوة تغيير. البقيّة صراخٌ هو من أضعف الإيمان، وليس لأغلبنا غيرُه. أُشفق على مبدعين ليس لهم، في بلدانهم، أن يصرخوا في وجه إبادة جماعيّة.  

أُشفق على مبدعين ليس لهم ببلدانهم أن يصرخوا ضد الإبادة


لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- هذا سؤال افتراضي يُجاب عنه افتراضيّاً، فلا سياق الماضي يعود ولا نوع القادمِ أعرفه. من الصعب، إذاً، أن أتمثّلني في هذا أو في ذاك. لأفترضْ أنه قُدّر لي أن أكون مبدعًا. في هذه الحالة أختار الإبداع مجالًا للتعبير عن إنسانيّتي في مواجهة بشاعة العالم، وفي هذا وجهُ نضال. أما السياسة فلا يتّسع لها مزاجي: أتحاشى إغراء سلطتها وفسادها كما أتحاشى حُسن نيّةِ طوباويّتها.


ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- لا بدّ لي من موقع أرى منه العالم، فمن أيّ موقع أراه؟ إن اخترتُ موقع انتماءٍ رأيتُه، في المدى العربي المنظور، نسيجَ علاقات قوةٍ، يتغيّر خارجَ إرادتي، فردًا وجماعة. لا إحساس لي بالوزن فيه إلّا عرضاً أو توهّماً. يُرهبني بما يبتكره أقوِياؤه من آليات توحّشِ إنسانيتهم وقِيمهم. هو يتغيّر بسرعة مذهلة نحو ما يفوق تصوّري، فلا أنتظر منه شيئًا أعرفه. عوضَ التوقّع آملُ: أملَ جيلٍ منهزم، أن تخرج الأجيال العربيّة القادمة من متاهات العرب الطويلة لتختصر الطريق إلى التغيير والتحرّر. 


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- يحضرني "حنظلة"، تلك الشخصيّة التي ابتكرها وأبدع في واقعيّتها الرسّام الفلسطيني المناضل ناجي العلي. اغتالوا العلي وبقي حنظلة حاضراً حضورَ أيقونة. لا أعرف شخصيّة أخرى خرجت من النصوص والرسوم العربية لتلتحق بالناس العاديين مثل ما فعل حنظلة. ماذا أقول له؟ ما زلتَ، يا حنظلة، في العاشرة من عمرك، حافيَ القدمين مرقّع الثياب، تدير ظهرك للعالم، وللعرب أوّلاً، عاقداً يديك خلفَ ظهرك. ما زلتَ واقفاً، تتأمّل. هل تتذكر ما رأيت وسمعت، هنا وهناك؟ أتذكر ذاك الذي طُلب منه أن يخفّف من مطاولة أميركا فرفع لافتة كُتب عليها: "فلتسقط جارة كندا"؟ ما زلنا نقول هذا ولكن بذكاء أقلّ. وتلك اللّافتة التي كنت تتأمّل المكتوب عليها: "اللي يهاجم إسرائيل بكلمة... يخطفوه"؟ الآن يسجنوه. وذاك الذي أقسم: "بشرفي لأحلق شواربي إذا هالأنظمة حرّرت شبر من القدس"؟ لقد طالت شواربه، يا حنظلة. لو واصلت تأمّلك لرأيت ما هو أدهى، لكنّي، رأفةً بك، أطمئنك قليلًا: هدّم العدوّ، ربّما أكثر ممّا توقّعت، ولكنّك ما زلت مرسوماً على تلك القطعة من جدارٍ مهدّم، محاطاً بعبارة: "صامدون. سقط البيت ولم يسقط حنظلة". متى تلتفت إلينا؟ متى نرى وجهك؟ فهمنا منك، وأنت المبعَدُ، أنّ ذلك لن يكون إلّا إذا عدت إلى فلسطين. ننتظرك.

أثبت أهل القرار السياسي أن مبدأ الحريّة ليس من مبادئ الحكم


كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- لا أجرؤ على قول شيء لأهل غزّة. قد أقول عنهم ولا أقول لهم. وحده، قول الفعلِ يُسمع ويعوّل عليه. جائعو غزّة شبعوا من لغو عجزِ العاجزين وخذلان القادرين. عوضَ التلهّي بما نقول لهم، لننظر إليهم ينظرون إلينا! من نحن في عيونهم؟ مُشاهدٌ شاهدٌ على شهيد.


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- إذا كان المقصود بالإنسان العربي "الإنسان العادي" فهو الأكثر إحساساً بوطأة الأوضاع، وإنْ ضاق تعبيره عن ذلك، قهراً أو تعوّداً. ومهما كان من أمره، فعاجل القولِ موجّه إلى أهل القرار، وأوّله ما يقول المستغيث من أهل غزّة: "أين أنتم؟ أين نخوتكم؟ أين إنسانيتكم؟ حرام عليكم! حسبنا الله ونعم الوكيل"، إلى آخره... ولما كان أهل القرار العربي منشغلين بما يُقال عنهم في بلدان القوّة، فلعلّهم علموا ما يقول فيها الكثيرون، ومنهم بعض كبار مفكّريها: لقد أثبت أهل القرار السياسي العربي أنّ مبدأ الحريّة ليس من مبادئ الحكم العربي. أُضيفُ: كان لبعض العرب، لو أرادوا، أن يوقفوا الإبادة الجماعيّة، بحدٍّ أدنى من شجاعةٍ جيوسياسيّة. لو فعلوا، لأحدثوا منعطفاً في التاريخ العربي المعاصر. فات الأوان: فلسطين آخرُ امتحانٍ لعروبة العرب. 


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- سؤال مُربك. لا أجد كلمة البدء لرسالة، وليس لي من القول ما يرتقي إلى عذابات طفلٍ فلسطيني وإلى أحلامه المذعورة. إن كان لا بدّ من إجابة، فأقول لدارين: مثل ما هم أطفال غزّة، وحتّى الأجنّة في بطون أمهاتها، أنت، يا دارين، "خِلْفةٌ". قد تستغربين هذه الكلمة. أفسّرها لك: قد تُقطع شجرةٌ أو تُحرق، كما تُحرق غزّة، ولكنّها قد تُخلِف فينبت في جذعها الراسخ في الأرض غصنٌ مورق. هذا الغصن خِلْفةٌ، فيه تستمرّ حياة الشجرة كما تستمرّ حياة فلسطين في أطفالها. لهذا يتوحّش إجرام العدو الصهيوني في إعدام أطفال فلسطين. هم أخطر عليه من الكبار. أضيف غضبًا أظن أنّ فيه شيئًا من غضبك: غضباً -والكلمة للتخفيف- من ألّا يأتيك فرسان العرب بدواء وقطرة ماء. 



بطاقة

الطاهر لبيب، كاتب وباحث ومترجم تونسي من مواليد سيدي بوزيد عام 1942، ساهم في تأسيس "الجمعية العربية لعلم الاجتماع"، التي تولّى فيها مشروع "نقل المعارف"، ويرأسها اليوم شرفياً. من أبرز أعماله: "سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العربي نموذجاً" (1972)، كذلك حرّر كتاب "صورة الآخر: العربي ناظراً ومنظوراً إليه" (1999). وله مشاركات في كتب جماعية، من بينها: "الربيع العربي إلى أين؟ أفق جديد للتغيير الديمقراطي" (2012)، روايته "في انتظار خبر إنّ" (2023) عمله السردي الأول.
 

مع غزة
التحديثات الحية

المساهمون