مع غزّة: أحمد عبد الحسين

مع غزّة: أحمد عبد الحسين

21 فبراير 2024
أحمد عبد الحسين
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية "يرعبني أنّ كثيرين تآلفوا مع المجزرة"، يقول الشاعر العراقي.


ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- الشعور بالذنب. إحساس متعاظم بالتقصير عن فعل شيء إزاء هذه الجريمة التي يتفرّج عليها الناس كما لو أنّها فيلم سينمائي. أعرف أنّ هذا الشعور لا يمتّ للمنطق بصلة، وأنّي لا أملك إلّا الكتابة، وباللغة العربية؛ أي أنّها موجَّهة من عاجز إلى عاجزين مثلي. لكن المنطق في هذه المجزرة فرصته محدودة. يلازمني شعور منذ بدء المذبحة أنّي ما دمتُ أتنفّس وأرى وأسمع، فأنا مذنب بطريقة أو بأُخرى. المفارقة هنا أنّي بدأت أفهم شعور المثقّفين اليهود الذين شهدوا المحرقة. لقد أفهمونا مشاعرهم الآن بطريقة مأساوية.


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- أستطيع تقسيم أثر العدوان عليّ إلى ثلاثة مستويات، تتناوب فيما بينها على رسم حياتي. المستوى الأوّل: الحماس الذي أتابع به أخبار خسائر العدوّ وبطولة المقاومين، وهذا أملى عليّ كتابة مقالات وأعمدة متفائلة في الصحيفة التي أعمل فيها، وجعلني أتابع كلّ الأخبار التي تتعلّق بغزّة. المستوى الثاني: التحليلي، وهو ما جعلني أتابع دراسات ومقالات رأي عالمية وبعضها له جانب عسكري استراتيجي، الأمر الذي جعلني أدخل في نقاشات مع زملاء وأصدقاء. أمّا المستوى الثالث، فهو اليأس من قدرة و"رغبة" العالم على مواجهة هذا التوحّش الصهيوني. وهذا المستوى يَظهر في كتاباتي التي تشبه المراثي، بل تشبه "المناحات" السومرية.


إلى أيّ درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- الكتابة لا تُنقذ شعباً على شفير الإبادة. هذه القوّة الشيطانية لا تُجابَه إلّا بقوّة عسكرية أو بقوّة سياسية تستطيع تهديد مصالح "إسرائيل" والغرب الذي يسندها. لكنّ كلّ شيء أهون من الصمت. إذا كنتُ مذبوحاً، فعلى الأقل أريد لطريقة ذبحي أن تكون صاخبة. ليكُن هناك فرق بيني وبين خروف مذبوح! أكتب كلّ يوم تقريباً عن هذه المجزرة. يرعبني أنّ كثيرين تآلفوا معها، وباتوا يرون الأمر تلقائياً و"طبيعياً". وأنا من أجل أن أنقذ نفسي من هذا الكابوس أكتب. من أجل ألّا تكون إبادة شعب شبيهة بحدث طبيعيّ، ولا نستطيع إلقاء اللوم فيه على أحد، كما لو أنّه هزّة أرضية مثلاً. أكتب لأقول لنفسي إنّ هذه جريمة وإنّ هؤلاء مجرمون.

الكتابة لا تُنقذ شعباً يُباد لكنّ كلّ شيء أفضل من الصمت


لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- لا أحب إلّا أن أكون كاتباً. لكنّي فعلاً تمنّيت لو أنّي أتحدّث وأكتب بالعبرية لأخاطب اليهود الذين يحتلّون أرض فلسطين. وفي رغباتي الأسطورية الطفولية أحببت أن يكون لديّ الاسم الأعظم لأقلب عاليها سافلها وأقرّب يوم القيامة!


ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- تقريباً لا شيء. كنت أعرف (والآن أنا متيقّن) أنّ الشيطان يحكم العالم، ويسيّره على هواه. ولهذا لا أمل بالخلاص. أرعبني مثلاً في هذه المعمعة أنّ مدوّنات التحديث ومقرّرات الحقوق العالمية وخطابات الإنسانية ديستْ بالأحذية من قبل مفكّرين وفلاسفة كبار، مثل يورغن هابرماس وسلافوي جيجك، كنّا نشهر أسماءهم كتمائم ضدّ الارتكاس الديني في بلداننا. وها هُم اليوم متديّنون صهاينة يشحذون سيوف القتلة بالفلسفة والحداثة وما بعدها. هذا بالنسبة إليَّ مُرعب، ويجعلني لا أنتظر شيئاً من العالم. إذا أتى خلاص ما فسيكون غيبيّاً كظهور المسيح أو المهديّ، وقد تأخّرا فعلاً. إذا أتيا اليوم فهُما متأخّران. لكن عليهما أن يأتيا مع ذلك.

مفكّرون يشحذون سيوف القتلة بالفلسفة والحداثة وما بعدها


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- النبي محمد لأعتذر أمامه لكلّ حرف في سورة "التوبة" حسبته عنيفاً، وإدوارد سعيد لأعتذر له ممّا كنت أظنّه مغالاة من قبله في قراءته للنتاج الإبداعي الغربي!


كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- في قصيدة جديدة لي بدأتها بهذه الجملة الحاسمة: "أريد أن أكتب كما لو أنّي في غزّة". وأعرف أنّ ذلك محال. ولهذا أقول حقّاً: "يا ليتني كنت معكم".


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- في طفولتي كنت أشاهد الجزّار وهو يذبح الخراف. وكنت أرى الخروف المعَدّ للذبح يذهب ليتشمَّم دم أخيه المذبوح توّاً ببراءة تامّة، وهو يلوك لقمة الحشيش في فمه. أقول لنفسي ولكلّ عربيّ: لا تتشمّم دم أخيك، ولا تعلك الحشيش في فمك، ولا تستسلم للذبح. قاوِم ولو بالجعير!


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- دارين وأخواتها وإخوانها أطفال غزّة سيظلوّن تأنيب ضمير أبديّاً بالنسبة إليّ. أقول لدارين: أنتِ امتحان إنسانيتنا، وكلّنا فشلنا في هذا الامتحان.


بطاقة
شاعر وصحافي عراقي من مواليد بغداد عام 1966، يعمل رئيس تحرير لصحيفة "الصباح" العراقية. من إصداراته: "عقائد موجعة" (1999)، و"عمّدني بنبيذ الأمواج" بالاشتراك مع علي ناطق (2000)، وجنّة عدم" (2007)، و"مختارات" (2009)، و"لا العطش ينتهي ولا الينبوع" (2014)، و"دليلٌ على بهتان العالم" (2016). صدرت له، العام الماضي، مختارات شعرية عن "دار المدى" بعنوان "كتاب الوجد والفقد".

 

مع غزة
التحديثات الحية

المساهمون