محمد عاكف آرصوي: مئة عامٍ على النشيد التركي

محمد عاكف آرصوي: مئة عامٍ على النشيد التركي

05 فبراير 2021
(محمد عاكف)
+ الخط -

احتفاءٌ بشاعر تجاهله القوميّون الأتراك واستقبلته مصر

على الرغم من المكانة التي تمتّع بها محمّد عاكف آرصوي (1873 - 1936)، في السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، وفي حرب الاستقلال (1919 - 1923)، التي تأجّجت مع تأليفه "نشيد الاستقلال" الذي أقرّه البرلمان التركي في آذار/ مارس 1921، إلا أن الشاعر حظي بعد وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم في 2002 باهتمام متزايد. هكذا، أعيدت طباعة أعماله الشعرية، وافتُتحت، عام 2006، جامعةٌ كبيرة تحمل اسمه في مدينة بوردور (التي مثّلها في "المجلس الوطني الكبير" عام 1920)، في جنوب غرب تركيا، كما أُعلنت هذه السنة مئوية "نشيد الاستقلال"، التي بدأت مع فعاليات عديدة تصل إلى ذروتها في آذار/ مارس القادم.

في هذا الوقت، يكتشف المعجبون بعاكف مكوّناتٍ ومؤثراتٍ أخرى في حياته وأشعاره، التي ما زالت تُطبع وتُقرأ في التركية والعربية والألبانية وغيرها من اللغات. ومن هذه المكوّنات المهمة قرارُه، نهايةَ 1924، مغادرة تركيا الكمالية إلى مصر التي عاش فيها آخر سنواته، وأبدع فيها شعراً، حيث نشر في القاهرة ديوانه الأخير "ظلال" (1933). كما أتمّ هناك ترجمة القرآن إلى التركية، بتكليف من "المجلس الوطني الكبير"، وهو ما أكسبه لقب "شاعر الإسلام" في مصر، مع أنه كان من الجيل الأول لقسم اللغات الشرقية في "الجامعة المصرية" (ستصبح، لاحقاً، "جامعة القاهرة")، التي أُسّست في 1925، حيث عمل فيه أستاذاً للّغة التركية وآدابها.


بين ابن الفارض ومحمد عبده

ولد محمد عاكف في إسطنبول عام 1873، لأب قدم من قرية في غرب كوسوفو (شوشيتسا) للدراسة، قبل أن يبرز في العلوم واللغات ويصبح من المدرّسين المعروفين في "مدرسة الفاتح" الشهيرة هناك. وكان من الطبيعي أن يهتمّ محمد طاهر ايبكلي (نسبة إلى مدينة إيبك، مركز القضاء) بابنه وأن يقوده إلى تعلّم اللغات الشرقية (التركية والعربية والفارسية) وآدابها. في هذا الجوّ من الرعاية بدأت موهبة محمد عاكف الشعرية في البروز خلال دراسته الثانوية. ولكنّ وفاة الأب بشكل مفاجئ عام 1888 دفعت الشاب إلى الانتساب إلى كلية الزراعة والبيطرة في إسطنبول، حيث تخرج منها (1893) طبيباً بيطرياً، ليعمل ويتحمّل مسؤولية العائلة الصغيرة.

ترجم القرآن وكتب نشيد الاستقلال الذي يُحتفل بمئويّته

ورغم انشغاله بعمله في إسطنبول، وجولاته التفتيشية في ولايات البلقان، التي سمحت له بأن يلتقي بأعمامه في كوسوفو، إلا أن الجوّ الفكري والثقافي الذي ميّز إسطنبول في نهاية القرن التاسع عشر - مع قدوم جمال الدين الأفغاني إليها (1892)، بدعوة من السلطان عبد الحميد الثاني لكي يستغل اسمه في دعوته إلى الجامعة الإسلامية - جعل الشاب محمد عاكف ينجذب إلى النقاشات الفكرية الدائرة في ذلك الوقت. نقاشات تتناول أسباب تأخر المسلمين وتقدّم غيرهم، ودور الدين في ذلك. هكذا، أبدى الشاب اهتماماً بمؤلّفات الشيخ محمد عبده، الذي ترجم له "الإسلام بين العلم والمدنية" (1901)، ردّاً على المؤرّخ الفرنسي ووزير الخارجية آنذاك، غابرييل هانوتو، الذي أعاد أسباب تأخّر المسلمين إلى الإسلام نفسه. وفي غضون ذلك توثقت علاقته مع حفيد محمد علي باشا، الأمير سعيد حليم (1863 - 1921)، الذي انشغل بهذا النقاش وبالكتابة فيه بالتركية والفرنسية، التي ترجم منها محمد عاكف إلى التركية كتابه "اعتناق الإسلام".

انضم كلّ من عاكف وحليم إلى المعارضة (جمعية الاتحاد والترقي) واستبشرا كثيراً بالثورة الدستورية (1908)، باعتبار أن الحكم الدستوري سيفتح للمسلمين طريق التقدم. وبفضل صداقة الأمير حليم انفتحت أمام محمد عاكف روابط جديدة مع مصر، التي أُعجب بشاعرها ابن الفارض وزارها عدة مرات. هكذا، راح اسم محمد عاكف يصعد بقوة في الساحتين الأدبية والأكاديمية، لا سيّما بعد انضمامه في 1908 إلى "جامعة إسطنبول"، أستاذاً للأدب العثماني، ومشاركته في إصدار مجلة "صراط مستقيم"، التي نشر فيها معظم قصائد ديوانه الأول، "صفحات"، الصادر عام 1911.


خطيب الاستقلال وشاعِره

مع بداية حرب الاستقلال بزعامة مصطفى كمال، استقال محمد عاكف من عمله الحكومي (بعدما أصبحت الحكومة رهينةً بيد الحلفاء الذين احتلّوا إسطنبول)، والتحق بالمعركة خطيباً وشاعراً متجولاً يثير حماسة الأتراك للمشاركة في الدفاع عن وطنهم أمام الاحتلالات الجديدة (البريطانية والفرنسية والإيطالية واليونانية). وفي هذا السياق انتخبته بلدة بوردور لتمثيلها في "المجلس الوطني الكبير"، الذي افتتح في أنقرة في نيسان/ إبريل 1920. وقد أقرّ المجلس، في أحلك الظروف، قصيدة محمد عاكف لتكون "نشيد الاستقلال" في 12 آذار/ مارس 1921، لتُنشَد القصيدة في كل مكان بقصد رفع معنويات الأتراك في المعارك ضد المحتلين. ونظراً لمكانته وشهرته كَضَليع باللغات الشرقية وآدابها، فقد بادر بعض أعضاء المجلس إلى اقتراح تكليف محمد عاكف بترجمة القرآن إلى اللغة التركية، على أن يجري ذلك تحت إشراف "مديرية الشؤون الدينية"، التي حلّت في ذلك الوقت مكان وزارة الأوقاف.

يحظى باهتمام متزايد منذ وصول "العدالة والتنمية" للحكم

ولكنّ خيبة محمد عاكف من "الاتحاد والترقّي" ستتكرّر مع اندفاع مصفى كمال، بعد النصر، إلى إجراءات تغريبية فوقية (قطع كل ما يربط تركيا الجديدة بماضيها العثماني)، كان آخرها متمثّلاً بمنع اعتمار الطربوش على الموظفين الحكوميين (1924)، ثم على عموم الشعب، وفرض اعتمار القبّعة أو البرنيطة بدلاً منه. وكان لكلّ ذلك تأثيرٌ في قرار عاكف مغادرة تركيا إلى مصر. وقد صادف أن وُجد، في السفينة التي أقلّته إلى الإسكندرية في تشرين الأول/ أكتوبر 1924، وجود الشيخ  محمد إحسان (1902 - 1961)، والد المثقّف والسياسي أكمل الدين إحسان أوغلي، الذي أصدر في 2018 كتابه عن العلاقة الوثيقة التي جمعته بعاكف في مصر (1924 - 1936).

بقي محمد عاكف في مصر منشغلاً بترجمة القرآن والتدريس وإصدار ديوانه الأخير، وذلك حتى نهاية حياته، حيث شعر بالمرض يشتدّ عليه في صيف 1936، فقرّر العودة إلى إسطنبول ليتوفّى هناك بعد عدة أشهر فقط (27 كانون الأول/ ديسمبر 1936).

ترك عاكف، في أوساط المثقفين في مصر، ما يُذكّر بتواضعه وسِعة ثقافته في الآداب الشرقية. وكان عبد  الوهاب عزّام (1894 - 1959)، وهو أول مصري يتخرّج من كلية الدراسات الشرقية في "جامعة لندن" ويتخصّص في الأدب الفارسي، قد عاد إلى القاهرة في 1927 ليتعرّف إلى محمد عاكف ويعرّفه إلى الكثير من المثقفين المصريين. ويعترف عبد الوهاب عزّام، بتواضع، بأنه تعرّف إلى الشاعر الكبير محمد إقبال (1877 - 1938)، من خلال علاقته مع محمد عاكف، فشُغف به وترجم له لاحقاً عدة دوواين، ونشر عنه أوّل دراسة جادة في اللغة العربية.


عودة إلى صدارة الاهتمام الرسمي

جاء محمد عاكف إلى مصر في وقت كانت فيه التيّاراتُ الفكرية والسياسية تبحث، بعد استقلال مصر في 1922، عن هوية للبلد، ما بين انتمائه إلى الشرق والإسلام، وإلى حوض البحر المتوسط والعروبة. وكانت تجربة تركيا الجديدة آنذاك قد زوّدت النقاشات والاستقطابات ما بين تأييد التجربة الكمالية واستنهاض رد الفعل ضدها باسم الإسلام. ومن هنا فُهِمَ محمد عاكف باعتباره من المعارضين للتجربة الكمالية، وأصبح يُشتهر باسم "شاعر الإسلام"، مع أن شعره متنوع بتنوّع الظروف التي عاشها. وقد استقرّ هذا اللقب وبقي يلازمه في مصر حتى يومنا هذا. وفي عام 1984، أصدر الأكاديمي المصري عبد السلام عبد العزيز فهمي كتابه "شاعر الإسلام: محمد عاكف"، الذي ثبّت هذا اللقب عليه. ولذلك نجد أن المختارات الشعرية التي صدرت لمحمد عاكف في القاهرة عام 2017 قد حملت أيضاً هذا اللقب على غلافها.

الصورة
تمثال محمد عاكف - القسم الثقافي
(جزء من تمثال لمحمّد عاكف آرصوي في أنقرة)

في هذا السياق أيضاً أُثيرت في القاهرة، خلال وجود محمد عاكف، معركةٌ حول جواز أو عدم جواز ترجمة القرآن، انقسم فيها علماءُ الأزهر بين مؤيّد ومعارض. كان محمد عاكف قد أنجز في ذلك الوقت ترجمته للقرآن، وعند شعوره بالمرض وقراره السفر إلى تركيا، أودعها أمانةً لدى صديقه، الشيخ محمد إحسان، وأوصاه بحرقها في حال لم يعد. وقد أثارت هذه الوصية، الذي نُفِّذت بعد وفاته للأسف، الكثير من الآراء حولها. وقد خصّص أكمل الدين إحسان أوغلي، في كتابه عن سيرة حياة والده، الشيخ محمد إحسان، فصلاً حول العلاقة الوثيقة التي ربطت هذا الأخير بمحمد عاكف. وحسب ما انتهى إليه إحسان أوغلي، يبدو أن محمد عاكف لم يكن راضياً تماماً عن ترجمته، كما أنّه كان يخشى من أن يجري استغلالُ هذه الترجمة من قِبل السلطة الجديدة في تركيا، لاعتمادها عوضاً عن الأصل العربي، بعدما سبق للسلطة نفسها أن فرضت رفع الأذان بالتركية بدلاً من العربية.

ولكن العقدين الأخيرين اللذين عاشتهما تركيا، منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم (2002)، حملا متغيرات جديدة لم تكن لترى النور في السابق. إذ كان تشييع محمد عاكف في 1936 قد جرى وسط تجاهل رسمي كامل، مع أنه كان من الأعضاء المؤسّسين لـ"المجلس الوطني الكبير" ومؤلِّف "نشيد الاستقلال"، الذي كان له دوره في حرب الاستقلال وبقي يُنشد حتى الآن. ومن التغييرات الجديدة، إضافة إلى إعادة طبع دواوينه وافتتاح جامعة تحمل اسمه في بوردور، إلقاء عضو البرلمان التركي عن حزب "العدالة والتنمية"، خاقان شُكُر، في شباط/ فبراير 2013، محاضرةً في "جامعة محمد عاكف" أشار فيها عرَضاً إلى أنّه "من أصل ألباني". وقد أثار هذا التلميح ردّة فعل قوية في الصحافة التركية، التي بقيت محافظة على الأسس الكمالية، ومنها القومية، التي لا ترى في تركيا إلا الأتراك.

ولكن رجب طيب أردوغان، الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك، تدخّل في اليوم ذاته ليدافع عن عضو حزبه، قائلاً ببساطة "إن محمد عاكف ألبانيٌ أيضاً"، في إشارة إلى المكان الذي ألقيت فيه المحاضرة. غير أن أردوغان، المعجب إلى حدّ بعيد بمحمد عاكف، والذي يجمع بين الإسلام والوطنية التركية في توليفة خاصة، انتهز فرصةَ منحه دكتوراة فخرية من قبل "جامعة محمد عاكف" في 2016 ليقول في كلمته عن الشاعر، التي أشادت أولاً بدوره في حرب التحرير وبتأليفه لنشيد الاستقلال، إنه "يستحقّ أن يكون شاعر الوطنية".


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون