شكل الزمن

شكل الزمن

13 يناير 2023
"هدير 1"، فادي أبو ديب، 30× 24 سم، 2022
+ الخط -

كان الموقف من الزمن واحداً من أهم علامات التبايُن في عالم السرد، بين الرواية في نشوئها، وبين السرد السابق عليها. ففي التراجيديا، حُصر الفعل الإنساني، ضمن أربعٍ وعشرين ساعة، وهي وحدة الزمن الشهيرة، في ما ينطوي هذا التحديد، كما يقول إيان واط في "نشوء الرواية" توضيحاً للفكرة، على إنكار لأهمّية البُعد الزمني في الحياة البشرية.

يظهر أن الرواية كانت حدّاً فاصلاً بين عالمين، من هذه الناحية، فالسرد في العالم القديم كان يرى أن شخصياته وعالم شخصياته موجود في زمن جامد، زمن يُمكن الإمساك به، وحصره، وضغطه بالطريقة التي يشاء، وأن فهم العالم ممكن بصرف النظر عن حركة الزمن. متغاضياً عن رأي  أبقراط الذي تخيّل الزمن نهراً، كما هو في حقيقته، لصالح فلسفة أفلاطون التي ترى الموجودات في حالة ثابتة كما خُلقت لدى الإله. بينما قدّمت رواية تيار الوعي طريقة أُخرى للوجود، ترى أن بوسعنا تتبّع ما يجري في عقل الفرد، تحت تأثير جريان الزمن.  

رأى السرد في العالم القديم أنّ شخصياته موجودة في زمن يُمسَك به

ثمة أشكال عديدة يمكن للثقافات أن ترى الزمن من خلالها، إذ بينما تجري حياة "مسز دالوي" لفرجينيا وولف، أو حياة ليوبولد بلوم في رواية "عوليس" لجيمس جويس، في يوم واحد، كتب نجيب محفوظ روايته التي أطلق عليها عنواناً لافتاً هو "الباقي من الزمن ساعة" لتتبُّع حياة أسرة حامد برهان، في تقلّبات الزمن، وتبدُّلاته، منذ الثلاثينيات في القرن العشرين إلى زمن كامب ديفيد، حيث لا يكاد يحدث شيء ذو بال للأسرة التي تنتظر أن يتبدّل الحال، إذ إن جميع التغيرات السياسية التي تشهدها مصر، في هذا التاريخ الطويل، أو هذا الزمن الممتد، تُبقي الأسرة محاصَرةً داخل زمن متشابه ووحيد. كأن الأعوام التي زادت على أربعين أو خمسين عاما، من عمرها، بما في ذلك رحيل حامد برهان، وزواج أبنائه، ليست سوى ساعة. 

ويمكن لسنية "الأم التي باتت وحيدة بعد موت زوجها" أن توجز مسألة الزمن الفارغ في الرواية، فحين "تسترق إليهم"، أي إلى أبنائها وعائلاتهم، "النظرات، تمتلئ بالشجن"، وتفكّر: "هزلوا وشاخوا قبل الأوان"، ويبدو الزمن الذي عاشوا فيه بلا جدوى، وهي لا تعرف، أو تعرف "ماذا جرى"، إلّا في مصائر أبنائها: "لم ينعم أحد منهم بفرحة صافية أبداً.."، ولم يكن حال البيت أو المكان أفضل، فهو "لم يتجدّد طوال الوقت، بل بقي كما كان".  

يقول إيان واط إن الرواية أحدثت قطيعة مع التقاليد الأدبية السابقة بخصوص استخدام الزمن، إذ بينما كانت المصادفة هي التي تحكم سلوك شخصيات الملاحم مثلاً، وهي قيمة لا تلتزم بالزمن إطلاقاً، كما أنها تتجاهل تأثير المكان في الأحداث ومصائر الشخصيات، فإن الرواية أحلّت السببية محلّها، بحيث كانت التجربة الماضية لأي شخصية، أو جماعة، سبباً للراهن. يضع محفوظ نهاية رمزية يشغلها الزمن في روايته، إذ يسأل محمد: "متى يا أم سيد تزول العقبات؟"، فتطوّعت سنية بالإجابة: "عندما يتوقّف الرعد".
 

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون