سيناريو مُرعِب جوابه المقاومة

سيناريو مُرعِب جوابه المقاومة

22 أكتوبر 2023
مظاهرة تضامنية مع فلسطين تنديداً بالمجازر الصهيونية في سيدني الأسترالية، أول أمس (Getty)
+ الخط -

أسعف قلمي

اللاجئون الجُدد في الخيام المرتجلة على نواحي القطاع، يفضّلون فيما بينهم، الإيماءة على الصوت. لقد انتهى، مع الهول الإبادي، زمنُ اللسان البشري. إنهم لا يقدرون الآن أن يستسيغوا التعامل مع اللغة، أية لغة. في مخيلاتهم قصيرة الأمد، تندلع المصائر السود لأقاربهم وجيرانهم، ولا يجدون أمامها سوى اثنين: عدم التصديق، والخَرَس.

أما لسان حالهم فيدعو الرب، بالخرس ذاته، أن يفتكرهم: ألا يُدخلهم في تجربة الشرير، مرة ثانية: أن يحميهم من ديستوبيا حيوانية ضد الضعف البشري، بعد أن قضى ألوف من أحبائهم فوق الرّدم وتحت الرّدم.

غزة الآن مقبرة، وروائح الموت تحت الأنقاض، تعمّ الهواء كلّه.

غزة الآن مقتلة، وناسها محاصرون من الجو والبر، ومهدّدون بالتهجير القسري.

اجتراح الكلمة كيما تبقى النار الأزلية مشتعلة

إنهم البشر الوحيدون على الكوكب، الذين يحصون حياتهم، الآن، بالبرهة والثانية، لا باليوم والأسبوع والشهر.

يا رب: أسعف قلمي على كتابة جملة سوية، فكم هو شاق أمرٌ كهذا.

أسعفه كي يكون حبرُه ولو على مقربة بوصةٍ من مستوى هذا الدم الفائض.

أسعفه وهو يرى روح تجنّب التدخل من الأقربين، لا تزال شائعة في المحيط.

هل تراهم استساغوا دوراً تواطؤياً، ليس لهم في الأصل، ولا ينبغي أن يكونوه في التاريخ؟

أسعف صحةً في الأفول، كي لا تبالي بكل هذا الهراء الأوروبي من حولها.


■ ■ ■


أن لا

يموت ابن آدم وهو لا يعلم إلا القليل. ذلك أن العالم فوق الكوكب، أوسع مدى في الشر ـ بما لا يقاس ـ من الإلمام ببعض جزئياته، فما بالك بكلها؟

يموت ابن آدم وهو في طور التعلّم، لهذا لا أساتذة من الناس على أحد من الناس.

القوسان هائلا الاتساع، والعمر قصير مثل ومضة.

الوحيدون على الكوكب، الذين يحصون حياتهم بالبرهة والثانية

إن كان للبشر من حكيم، في الأول والأخير، فإنه الغراب، الذي حسب المأثورة، علّمهم من أزل، كيف يدفنون موتاهم.
واليوم ثمة بِغزّة، مشهد بلد مقصوف ينكشف، عارياً ومتعدد الأوجه، عن تعذّر الدفن، وعن تحلّل ألوف من الأبرياء تحت الأنقاض، وقد زكمت روائحُهم الأنوف.

غزة تعيش أعلى مراتب المجزرة. مقاومتها، بالمقابل، تعيش أعلى مراتب النضال الفلسطيني، منذ النكبة.

والعدو اختار أن يهدم القطاع على ساكنيه، رويداً رويداً، كي يجعل الحياة مستحيلة هناك على النوع البشري.

إنه من خلال إتقان الرعب السماوي، المؤازر من الأطلسيين، وناتو الأشرار الخلّص، يدفع بهم لنكبة ثانية وأخيرة، بإفراغ فلسطين كلها من أهلها، على مراحل، حيث يقبع في لاوعيه، ندمٌ حارق، لطالما عبّر عنه ساسته علانية، من أن خطيئتهم الكبرى، أنهم لم يرحّلوا الفلسطينيين، عن بكرة أبيهم، خارج البلد في 1948.

هل ترانا نشهد أولى المشاهد من سيناريو مرعب كذا؟

آمل، وعيني على المقاومة: أن لا.


■ ■ ■


فلنتكلّم

أحيا، الآن وهنا، موبوءاً بالخبث الأطلسيّ، في خضم حملة إعلام شرسة تجرّم المقاومة، وتختصرها إلى الإرهاب (وهو أمر ليس بجديد في تاريخ نضالات التحرر من الاستعمار).

حتى الفلاسفة، ركبوا الموجة، ووجّهوا وعي قرّائهم الزائف، من خلال المنابر الكبرى، إلى نقيض الحق والحقيقة.

أحيا، وأستمع لنبرة بايدن التوراتية: ("يا إسرائيل: أنت لست وحدك. نحن معك").

تعودُني: "في البدء كانت الكلمة"، لأن التسمية تعني إعطاء الحياة، سواء لجماد أو شخص أو شعب.

لقد ساهمت الكلمة في إعطاء معنى للوجود، وتوضيح الأسباب، وتوليد عدد لا نهاية له من الألغاز التي تشغل عقول البشر اليوم.

ولكن الكلمة أيضًا مصدر قوة، وليس عبثًا أن يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون، وذلك بلا شك بسبب استخدام الكلمة كخطاب لإضفاء الشرعية على دولة ما، أو قوة معينة، حتى لو أوغلت في الشرّ.

أغلب الإعلام الغربي اليوم هو إعلان فاضح عن الوقوف إلى جانب الجلّاد.

وعليه، فإن من الملح للغاية تعميم الكلمة بيننا كشكل من أشكال التمرد الذي يكرّم الواقع، أولاً وقبل كل شيء، ويسميه دون خوف من إقصائه أو تهميشه في دهاليز الدخان. 

فلنتكلّم: إن شعباً محروماً من كل شيء، سوى إيمانه بعدالة قضيته، ليس بمقدوره سوى اجتراح الكلمة كيما تبقى النار الأزلية مشتعلة.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية

المساهمون