ستّينيات بيروت الذهبية.. "كذبتنا الصادقة"

ستّينيات بيروت الذهبية.. "كذبتنا الصادقة"

24 مارس 2023
جزء من "ميناء بيروت" لمحمود سعيد، 1954 (من المعرض/ العربي الجديد)
+ الخط -

قبل دخول "ستّينيات بيروت الذهبية"، عليك من باب الاحتياط قراءة ملخّصات تاريخية لقرن مضى، تمثّل عتبة المعرض الضخم المقام في "المتحف العربي للفن الحديث" بالدوحة، وهو ذاته "يشكّك بالرواية الرومانسية التي تُدعى 'العصر الذهبي'، والتي تندلع في نهايتها الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975"، بحسب مدوّنة المعرض.

يقدّم لنا المعرض، الذي افتُتح في 17 آذار/ مارس الجاري ويستمر حتى 15 آب/ أغسطس المقبل، وجهات نظر حول فترة محورية في تاريخ بيروت، تلك المدينة التي لا يزال فيها دور الفن في أوقات الشدّة قائماً.

نحن أمام 225 عملاً فنياً و300 وثيقة أرشيفية جُلبت من 36 مجموعة مقتنيات في 16 مدينة حول العالم، وكثير منها لفنانين عرب، فلسطينيين ومصريين وعراقيين وسوريين وغيرهم.

هذا الفصل من تاريخ بيروت الحديث في الفترة ما بين 1958 و1978 يختاره المعرض لأنه ذروة الفعل النشِط للفنون وتنوّع مشاربه ومغامراته، في مطحنة سياسية كبرى في الوطن العربي، تُطاول بيروت، الممرّ الأسهل للأحلام والحرائق.

أعمال تؤرّخ للمدينة من الانتداب الفرنسي إلى ما بعد الحرب الأهلية

وحين يقارب المعرض، من زاوية تاريخية، التشكُّل الحديث لهذه المدينة، فهو يعيدنا لوصول القوات الفرنسية إلى سورية الكبرى عام 1860، ثم اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، والانتداب الفرنسي على سورية ولبنان بدءاً من 1920، والحرب العربية الصهيونية الأولى التي نجمت عنها النكبة عام 1948، وثورة 23 تموز/ يوليو في مصر (1952)، وثورة التحرير الجزائرية (1954) وحرب السويس (1956)، ونزول 15 ألفاً من المارينز الأميركان عام 1958 لتنصيب رئيس موالٍ للغرب، ونكسة حزيران/ يونيو 1967، وحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، والحرب الأهلية (1975) والثورة الإسلامية في إيران (1979)، واتفاق الطائف أو المصالحة الوطنية (1989).

يتتبّع المعرض التشابك المعقّد للفن والثقافة داخل التناقضات المتباينة عبر عالمنا العربي، ويركّز على دور بيروت المهمّ في إبراز رؤية جديدة للحداثة من خلال فن انخرط في السياسة وقتما كان الأمل موجوداً في التغيير. ولا يغفل الروابط المتشابكة بين الماضي ونضالات بيروت الحالية، حسب شرح القيّم الفنّي للمعرض، سام بردويل، في الجولة التي أدارها يوم الافتتاح.

في القسم المعنون "مرفأ بيروت: المكان"، هذه لوحة لميناء بيروت عام 1954 رسمها محمود سعيد (1897 - 1964) بألوان وادعة تشير إلى العاصمة التي باتت تتهيأ لتصبح وجهة للكتّاب والفنانين والمعارض التجارية والمساحات الفنية المستقلة.

الصورة
لوحة لخليل زغيب تصوّر أجواء بيروت بُعيد الإنزال الأميركي عام 1958 (من المعرض/ العربي الجديد)
لوحة لخليل زغيب تصوّر أجواء بيروت بُعيد الإنزال الأميركي عام 1958 (من المعرض/ العربي الجديد)

في ظلّ اقتصاد يعتمد على الواردات والصادرات، فإن مرفأ بيروت هو قلب المدينة النابض، ورمزُ عالميةِ بيروت، بعد احتلال حيفا عام 1948 (التي كان ميناؤها الأهمّ في شرق المتوسط، وسيظهر في لوحات عديدة)، منها لخليل زغيب (1911 - 1975) الذي له لوحة بانورامية تصوّر المرفأ البيروتي لدى وقوعه تحت سيطرة قوّات المارينز الأميركية عام 1958، ولوحة أخرى لإيتيل عدنان (1925 - 2021) في زمن الحرب الأهلية باللونين الأبيض والأسود على ورق يأخذ شكل الأكورديون، وصولاً إلى تفجير 4 آب/ أغسطس 2020 الذي دمّر مرفأ بيروت، أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ المسجّل.


تكوين الشكل
يُورد المعرض أن انتهاء الانتداب الفرنسي في 1943 أبرزَ جدالات ومناظرات محتدمة بشأن مسألة أصالة المجتمع الفني في بيروت بعد الاستقلال. حيث وضع بعض الفنانين مسارات جديدة في الرسم والنحت، ارتبطت بالتقاليد المحلّية وبلغة التجريد البصري العالمية، وأعادت سلوى روضة شقير (1916 - 2017) توظيف أبيات من الشعر الإسلامي لتكون أساس أعمالها النحتية الحديثة.

وفيما توجهت الرسّامة لور غريب (1931 - 2023) إلى فن المجسمات المصغرة الإسلامية، فقد اهتم رفيق شرف (1932 - 2003) بقصة الحب الملحمية في جوهر سرديات العصر الجاهلي -أي عنتر وعبلة- لتكون مصدر إلهام سلسلة من الرسومات، بينما سلك ضياء العزاوي (84 عاماً) مساراً مجدّداً في بلاد الرافدين، فصوّر أشكالاً سومرية لها أعين داكنة وفارغة، وجمع عادل الصغير (1930 - 2020) التجريد الهندسي في فترة ما قبل عصر الحداثة الإسلامي بمبادئ مدرسة باوهاوس المعمارية الألمانية. 

الصورة
"نشيد الجسد"، من "سلسلة تل الزعتر" لضياء العزاوي، 1979 (من المعرض/ العربي الجديد)
"نشيد الجسد"، من "سلسلة تل الزعتر" لضياء العزاوي، 1979 (من المعرض/ العربي الجديد)

بدورها، استخدمت جوليانا سيرافيم (1934 - 2005) رموزاً من العصور القديمة أشارت إلى الثقافة الفينيقية، وهو فكر عززه المسيحيون اللبنانيون الفرانكوفونيون. عملت سيرافيم على تجربة أساليب جديدة، فوضعت طبقات تكوينية للطلاء على اللوحات، التي أدت إلى زعزعة الحدود بين الرسم والنحت، وكان ذلك الأسلوب تطويراً متكرراً في منهج الحداثة الذي اتبعه فنانون آخرون مثلما نجده لدى فاتح المدرّس (1922 - 1999).

كذلك فإن الفنان تحت وطأة لحظة تاريخية قاسية قد يجد نفسه منجرفاً إلى مغادرة أسلوبه الذي درج عليه، كما في اللوحة الثلاثية غير المعتادة لشفيق عبّود (1926 - 2004) بعنوان "حرب الأيام الستة" عام 1967، الحرب التي لم يشهد تاريخ العرب المعاصر هزيمة منكرة تماثلها. وقد عكست اللوحة انقطاعاً مفاجئاً عن أسلوب عبّود المجرد المعتاد، فنجد التاريخ مرسوماً خارج المركز في هذا العمل الواسع، الذي تَشَبّع بالخطوط السوداء والحمراء لإضفاء بُعد رمزي.


الوحش والطفل: السياسة
ندخل بعد ذلك مرحلة التصعيد السريع للتوتّرات السياسية والاجتماعية نهاية الستينيات وحتى اندلاع الحرب في 1975. يتناول هذا القسم بشكل أعمق العلاقة بين الفن والسياسة في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث زعزعت الطائفية الممنهجة في المؤسسات الاجتماعية والسياسية جميع أوجه الحياة في المدينة.

كان مفتتح هذا العقد يشهد غياب زعيم القومية العربية، الذي رغم انكساره في حرب الـ67، إلّا أن ملايين من الشعوب العربية، ومنها في لبنان، حافظت على ولائها لمشروعه مثلما حظي بشكل شخصي على حضوره الرمزي والمحبوب.

يركّز المعرض على دَور بيروت المهمّ في إبراز رؤية جديدة للحداثة

في لوحة تذكارية مكوّنة من جزأين حملا عنوان "جنازة عبد الناصر"، صّور بول غيراغوسيان (1926 ـ 1993) مظاهر حزن الجمهور بعدما توفي عبد الناصر، وفيها ظهر أسلوبه المعاكس للعديد من معاصريه، حيث تتجمع الأجسام معاً في مجموعات تشير إلى انتماء عائلي. ومع ذلك، فإن قُرب الشخصيات بعضها من بعض لا يعوق الشعور بالغربة الفردية.

الصورة
 "جنازة عبد الناصر" لبول غيراغوسيان، 1970 (من المعرض/ العربي الجديد)
"جنازة عبد الناصر" لبول غيراغوسيان، 1970 (من المعرض/ العربي الجديد)

في عام 1971، تقرّر الرسامة سيمون فتّال (81 عاماً) عملَ بورتريه ذاتي بالفيديو. جاءت محاولتها بعد أن شاهدت معرضاً للصور في "متحف الفن الحديث" بنيويورك، حيث كانت الوسائط الجديدة غالية بشكل ملحوظ في تنسيقات الفيديو.

أكثر من سبع ساعات من المونولوغ الذي تشارك فيه فتّال الذكريات والأحلام والمحادثات العفوية مع العائلة والأصدقاء، ونرى في القسم المخصّص لها على الشاشة إيماءاتها الجسدية وإخلاصها وهشاشتها وتحولاتها بين النرجسية والوعي الذاتي. لكنّ هذا القسم من المعرض -وقد نقله من عنوان لوحة لفاتح المدرس "الوحش والطفل"- يشير إلى تجارب فنية أخرى تنبأت بسيلان الدم في حرب أهلية استمرت 15 عاماً.


دماء طائر الفينيق
تحت هذا العنوان يُفرد آخر أقسام المعرض معاناة الحرب الأهلية اللبنانية، حيث أُغلقت صالات العرض والمساحات الفنية المستقلة وهاجر الفنانون إلى أوروبا والولايات المتحدة والدول العربية، وخصوصاً الخليج.

الصورة
القيّم الفنّي سام بردويل يقود جولة في المعرض (العربي الجديد)
القيّم الفنّي سام بردويل يقود جولة في المعرض (العربي الجديد)

بعض الفنانين ممّن بقوا في البلد توزّعوا بين القوى الوطنية واليسارية من جانب، وبين قوى اليمين من جانب آخر، وانقسمت العاصمة إلى شرقية وغربية، واندلعت معارك طائفية ومعارك كسر الإرادات الإقليمية التي دخلت فيها "إسرائيل" حليفاً لفريق لبناني ضد خصومه.

تناول المعرض صورة الفدائي في سبيل القضية الفلسطينية، وبالطبع كانت هذه الصورة تجد تمثيلاتها الإيجابية حصرياً لدى مَن اصطُلح عليهم "القوى الوطنية"، من فلسطينيين ولبنانيين ومتطوعين عرب وأجانب.

الصورة
"الوحش والطفل" لفاتح المدرّس، 1970 (من المعرض/ العربي الجديد)
"الوحش والطفل" لفاتح المدرّس، 1970 (من المعرض/ العربي الجديد)

تبرز هنا مجموعة لوحات لضياء العزاوي عن مذبحة مخيّم تل الزعتر بحقّ اللاجئين الفلسطينيين عام 1976، وهي لوحات جاءت في سلسلة مطبوعة على الحرير بعنوان "نشيد الجسد"، موقّعة في عام 1979. وفي العام ذاته رسمت منى السعودي (1945 - 2022) سلسلة لوحات بألوان مائية وطباعة على الحرير، مستلهمةً قصائد محمود درويش. وفي هذه اللوحات تظهر المفارقة المعروفة بين منى السعودي النحّاتة، التي تنحت بشكل ناعم ومستدير وخفيف، والرسّامة ذات الزوايا الحادّة في رسوماتها.

التاريخ الذي لا غنى عنه في معاينة ما قبل ولادة بيروت وسيرورتها، لا يؤثر وحسب في المدينة التي أحبّها الفنانون والكتّاب العرب، بل يعجنها ويخبزها، ويترك في كتابها سطراً، ويترك على جسدها وشماً، لأنها المدينة العربية الوحيدة التي مثّلت، في ما يُسَمّى "العصر الذهبي"، الحرّية الغريبة على نمط العواصم المركزية العربية، ولكنها أيضاً الحرّية التي تبشّر بالفوضى. أحبّوها لأن الحب "كذبتنا الصادقة"، بتعبير محمود درويش.

المساهمون