رحلة جمال الدين القاسمي إلى المدينة المنورة على متن القطار الحجازي

رحلة جمال الدين القاسمي إلى المدينة المنورة على متن القطار الحجازي

23 يناير 2021
رسم للمدينة المنورة أواخر القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

دوّن علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي خمس رحلات، إلى جانب عشرات المؤلفات الفقهية والتاريخية وأدب الترسل واليوميات، خلال حياته القصيرة التي لم تتجاوز السبعة والأربعين عاماً. ومن هذه الرحلات رحلته إلى المدينة المنورة في ربيع العام 1910 مستقلاً القطار الحجازي.

وتكتسب هذه الرحلة أهميتها من كونها واحدة من الرحلات القليلة التي تصف مسار هذا الخط، ومحطاته، وطبيعة المتاعب التي ترافق المسافر، وهي متاعب تختلف اختلافاً بيّناً عن متاعب الرحلة ضمن محمل الحج القديم، والذي كانت يستغرق شهوراً في الفيافي والقفار، ويتعرض لشتى المخاطر والأخطار.

وفي هذه الرحلة المختزلة زمناً وكتابة، يحدثنا القاسمي عن مكتبات المدينة المنورة العامرة بالمخطوطات النفيسة، ويسرد جانباً من الحياة الاجتماعية التي لا تخلو من البعد العلمي. وتجده يفصح عن عقيدته السلفية المعادية للتصوف والمتصوفة، والذين يسميهم بالقبوريين والحشوية. وربما هو أول من استخدم هذه الأوصاف بحق أتباع الطرق، كونه كان يرى ما يقولونه عن المدد الروحي من زيارة قبور الأولياء، وقدرات القطب الصوفي الاستثنائية، نوع من الحشو الممجوج. ويبدو أنه قد أصبح حاد المزاج بعد محاولة قتله هو وصديقه الشيخ رشيد رضا في الجامع الأموي عام 1908، قبل عام ونصف العام من هذه الرحلة، وفرض الحجر عليه في منزله شهوراً عدة، خشية من الاعتداء عليه مجدداً.

والعلامة القاسمي مولود في دمشق عام 1866م، وهو المؤسس الفعلي إلى جانب الشيخ رشيد رضا، للسلفية العلمية في بلاد الشام، وقد تعرض في العهد الحميدي للاضطهاد على يد الصوفية، فسجن وحوكم واتهم بابتداع مذهب ديني جديد اسمه المذهب الجمالي، ولو أنه أدرك العام 1916 لكان أحد المشنوقين على يد جمال باشا السفاح، إذ كان جل المشنوقين من تلاميذه ورفاقه. وكانت وفاته في الثامن عشر من شهر نيسان 1914م. ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق.

الصورة
رحلتي إلى المدينة المنورة - القسم الثقافي

للقاسمي مؤلفات كثيرة بلغت 113 عنواناً من أهمها قاموس الصناعات الدمشقية، جمع فيه هو ووالده سعيد القاسمي جميع الصناعات والحرف التي كانت موجودة في عصره، ويعد بحق واحداً من أهم المراجع عن الحياة الاجتماعية في عاصمة الأمويين أواخر القرن التاسع عشر. إضافة إلى كتاب غير مطبوع في تاريخ دمشق.


معان ومدائن مصالح

بدأ الشيخ القاسمي رحلته إلى المدينة المنورة على متن القطار ظهر يوم الاثنين 4 نيسان (إبريل) 1910 من محطة الحجاز، ووصل وقت الغروب إلى درعا. ثم سار إلى محطة القطرانة جنوبي عمان بتسعين كيلومتراً، حيث صلى فيها الصبح. وبعد أن اجتاز القطار محطات عديدة توقف عند محطة معان لمدة ساعة. فكتب عنها: "رأيت عمرانها آخذا بالازدياد، وبعض تجار الشام استأجر حانوتاً بها مهماً لجلب بضائع مهمة، وفق الله الأمة لعمران البلاد بعونه وكرمه".

وبعد ذلك تحرك القطار متجاوزا عدداً من المحطات إلى أن وصل تبوك فجراً، ثم إلى محطة مدائن صالح بعد العصر، حيث وصفها بهذه الكلمات: "نزلنا وتجولنا في أنحائها، ورأينا أثر اندكاك بيوتها، بما شاهدناه من تقطع أوصال جبالها، وانفكاك بعضها عن بعض، حتى بقي كثير من أطوادها مثل العمود، مما دل على وقوع زلازل بها، وحلول عذاب سماوي وأرضي على أهلها، وهي من الغرابة بمكان".

وبعد استراحة لساعتين تحرك القطار إلى محطة هدية، ومنها إلى المدينة المنورة. وعن المناطق الواقعة بين المحطتين يقول: "سار بنا الوابور يجوب تلك البقاع الواسعة، الجديدة بالعمران، ولو بذلت العناية في تمصيرها، لما بها من جودة التربة، والميل إلى الحرارة، فستؤتي أكلها في العام مرات لو عني بها حق العناية، ولعله يكون بحوله تعالى. وقد أراني بعض الرفاق فصيلة ذات أغصان، كلها سنبل شعير، وقال لي: هذه شعيرة سقطت هنا فانظر ما أتى منها. وما زلنا على هذه المناظر حتى أشرفنا على المدينة المنورة، فلم أطق القعود شوقاً والتياعاً، وأخذت دموعي تهطل ولساني يردد الصلاة والسلام على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ودخلها القطار أصيل هذا النهار (أي يوم الخميس 7 نيسان (إبريل) 1910) قبل المغرب بنحو ساعة ".


حرمة الأموات ونساء سابقات

نزل الشيخ القاسمي في نزل قريب من باب المجيدية، أحد أبواب الحرم الشمالي، وذهب صبيحة يوم الجمعة إلى حمام يدعى حمام النبي، في حارة قبلي المسجد الشريف، ثم جال في الروضة المباركة بانتظار الخطبة والصلاة، وبعد صلاة العصر التقى بصديق له يدعى علي بيك المؤيد العظم الذي كان يؤدي فريضة الحج في مكة، ثم سارا إلى مقبرة البقيع التي يتحسر على وضعها قائلاً: "أسفنا لعدم انتظام حفر القبور، وشاهدنا كثيراً من عظام الموتى وشعورهم مبعثرة، بسبب جهل الحفارين بأمور الدين، وفي حرفتهم أيضاً. ذلك أنهم يحفرون حفيرة ثم يدفنون بها الميت، فربما حفروا بعد برهة لميت آخر، ورموا عظامه وشعره، ووضعوا هذا الآخر. ورأيتها ضيقة مع إمكان شراء ما ورائها من الحديقة وضمها إليها. ولو أن هؤلاء الحفارين يبنون القبور من داخلها، ويطينونها من ظاهرها، لكان أبقى لحرمة الميت، وهذا ما يفعله حفارو الشام".

ويلفت نظر الشيخ في صلاة فجر يوم السبت في الحرم النبوي؛ وجود نساء قد سبقن الرجل إلى الصلاة؛ إذ يقول في ذلك: "قد سرني أني كلما باكرت على الحرم أجد في الصفة التي يصلي بها النساء من يسبق منهن الرجال، وهذا ما يسر. وقد جهدت في البكور بعد ذلك، ولم أر في تلك البكورات إلا السابقات منهن، فلا غرو، فكم في النساء من عابدات وخاشعات وسابقات".


مسجد قباء

بعد ذلك يتوجه الشيخ القاسمي وبعض رفاقه إلى مسجد قباء خارج المدينة المنورة فيكتب عن ذلك: "ضحوة هذا اليوم ذهبنا إلى مسجد قباء، وانتظرنا العربات نحن ورفقتنا علي بيك المؤيد، والشيخ عبد الله الرواف أحد علماء نجد، وصديق لنا، على صخور عاليات قرب باب المناخة، عند القلعة. ولما قدمت العجلات ركبنا ووصلنا في نحو ساعة، وتوضأنا من بركة هناك داخل حديقة نخل. ثم دخلنا المسجد، وصلينا الضحى ثمانياً، وتجولنا في أنحاء ذلك المسجد، وذكرنا ما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء كل سبت، وحمدنا المولى الذي أتاح لنا هذه الزيارة".

ويصف الطريق إلى قباء بقوله: "طريق لطيف، تحف بجانبيه حدائق النخيل، وفي جوار مسجد قباء بئر أريس الذي سقط فيه خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يد عثمان. وقد تجولنا حوالي البئر، ورأيناه، ودخلنا إلى حديقة في جواره، وذكرنا للإخوان نبذة مما قصته السيرة النبوية علينا في قباء والخيف، فيا الله ما أجل ذلك المكان اللطيف".


في مكتبة عارف حكمت

حرص الشيخ القاسمي خلال رحلته هذه على زيارة مكتبات المدينة، وكانت زيارته الأولى لمكتبة عارف حكمت التي نقلت محتوياتها إلى إسطنبول أثناء أحداث السفربرلك (1914-1918)، ثم أعيدت إلى المدينة في عهد الدولة السعودية. وعن زيارته هذه يقول: "ضحوة يوم الأحد (10 نيسان / إبريل) سرنا إلى مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بك، وطالعنا أجزاء فهارسها، وانتخبت كثيراً من نفائسها للمطالعة. ثم تخيرت رسالة في فن الكتابة لطيفة، وهي شرح منظومة لابن البواب البغدادي الكاتب، فشرعت في نسخها قبل الظهر. بعد أدائه في الحرم مع الجماعة عدت إلى المكتبة ونسخت منه جانباً. ودخل أثناء كتابتي الشيخ يوسف النبهاني الشهير، شيخ الحشوية والقبورية، فسلم، فرددت عليه السلام، ومكث جانباً، ونحن على كتابتنا. وكان عندي الشيخ عبد القادر الشلبي الطرابلسي المقيم بالمدينة، وهو من طلبة العلم الحشوية، ويميل لمشرب الشيخ النبهاني، ويتاجر على الزوار بالخرافات والبدع التي نبذها الشرع القويم وبعث النبي صلى الله عليه وسلم لنبذها".

وتدل كلمات الشيخ القاسمي في هذا المقطع، على حربه الضروس مع الصوفية التي يسمي أتباعها بالحشوية والقبورية، والشيخ النبهاني المذكور هو واحد من أعلام الصوفية في ذلك العصر وكان يومها مقيما في المدنية قبل أن يعود إلى بلدته إجزم في قضاء حيفا بعد الحرب العالمية الأولى.


المكتبة المحمودية

يحدثنا الشيخ القاسمي عن زيارته لمكتبة أخرى لا تقل أهمية عن مكتبة عارف حكمت في يوم الاثنين وهي المكتبة المحمودية التي يقول فيها: "عدت إلى المكتبة المحمودية وطالعت طرفاً من فهارسها، فرأيت فيها المحلى لابن حزم في ثمانية أجزاء، فأردت تجريد مقدمتيه في مسائل أصول الدين وأصول الفقه، فشرعت في مسائل أصول الفقه ونسخت منها إلى العصر. وعادة المكتبتين أن تفتح أبوابهما للطلبة والمطلعين من الضحوة الكبرى إلى العصر، وبعد العصر لا يمكن أحد من المطالعة لأنهما تغلقان، وفي يوم الثلاثاء والجمعة تغلقان من الصباح إلى المساء. وقد قلت لقيم مكتبة شيخ الإسلام: يا أخي ارحموا الغريب، وافتحوا الأبواب من الصباح وعطلوا الثلاثاء أو الجمعة، فقال: هكذا العادة، يوم الثلاثاء يوم فسحة ونزهة وتزاور، ويوم الجمعة يوم عبادة، فأسفت جداً لضيق وقت المطالع".

وأمضى الشيخ يوم الثلاثاء في الصلاة وزيارة صديقه السيد عبد الله بن علي من الشرفاء الحسينية حيث أضافهم في حديقة منزله، وتذاكر فيها مع بعض أصدقائه وشرب الشاي والقهوة، ثم زار صديقه عبد الله الرواف. ثم ذهب للاعتكاف في المسجد.
وفي يوم الأربعاء ذهب مع أصدقائه إلى زيارة سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فركبوا العجلة وساروا بها نصف ساعة، ووصلوا هناك وتجولوا في ذلك الوادي الأنور، وشاهدوا الآثار في السهل والجبل، ثم عاد إلى المكتبة المحمودية لإكمال ما بدأه من نقل مقدمة المحلى، ومكث إلى العصر، واشترى من بائع كتب أمام المكتبة المحمودية كتاب "وفا الوفا" للسمهودي بمجيديين.

وفي يوم الخميس الذي بلغت درجة الحرارة فيه 30 درجة كما يقول، ثم عاد إلى المكتبة المحمودية وأتم نسخ مسائل الأصول من مقدمة المحلى، وبعد الظهر ذهب لمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، ونقل أسماء كتب مهمة في الكلام واللغة، وقال: "وددت لو يتاح لي الإقامة في المدينة نحو عام أنسخ تلك الكتب المهمة، ولعل المولى يتفضل علينا بذلك بعد حين".


في ضيافة مفتي الشافعية

في يوم الجمعة يذكر الشيخ القاسمي أنه زار بعد العصر السيد أحمد البرزنجي مفتي الشافعية في المدينة المنورة بناء على دعوة الأخير، وقال إن بصره قد كف، وتبادل معه المحاضرات والمذاكرات، وغرائب الأخبار، وسير المتقدمين ساعات. وقد أهداه المفتي شيئاً من رسائله وكتاب ذيل تاريخ المدينة لأخيه الشيخ جعفر البرزنجي.

وفي يوم السبت عقد الشيخ العزم على العودة إلى دمشق الشام، وكانت ثمة مشكلة في القطارات فتأخر إقلاع القطار إلى الظهر، فسار إلى محطة الهدية، ثم إلى مدائن صالح، ومكث هناك طويلاً، ثم سار إلى محطة المعظم، ثم تبوك، وفيها ناموا بضع ساعات، وقبل أن ينطلقوا بالقطار زار بعد طلوع الشمس مسجد تبوك فوجده قد جدد تجديداً لطيفاً، ثم زار عين الماء وغسل منها وجهه لما لها من نبأ شهير في غزوة تبوك، حيث ظهرت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم في تفجير مائها، كما يقول. وأردف: "إن ماءها الآن غزير يسير نهراً لطيفاً، ولو أنه يحافظ عليه ويراعى كما تراعى المياه في البلاد لزادت غزارته وتفجره". وقد امتدح أرض وتربة تبوك وقال: "لا يعوزها إلا الرعاية على الأصول الحسنة".

وذكر الشيخ أن الجو اختلف بعد الدخول في محطة القطرانة، إذ بدأت نسائم الشام البليلة تهب، فتدثروا بثيابهم من البرد، ووصل إلى الشام مع العشاء، وذكر أن تكلفة الرحلة والإقامة في المدينة بلغت 1128 قرشاً ونصف القرش. أي ما يعادل حوالي 11 ليرة عثمانية.

المساهمون