يستهلّ تشارلز ديكنز روايته "البيت المُوحِش"، التي صدرت عام 1853، بالحديث عن "طقس لندن، (الذي هو) كعادته في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، كئيبٌ شديدُ الوطأة، فالدخان يهبط متثاقلاً من مَداخن السطوح إلى الشوارع المغمورة بالماء والوحل، والضباب يلفّ كلّ أرجاء المدينة".
ويأتي وصف الروائي الإنكليزي (1812 ـــ 1870)، لمدينته في سياق أحداث تنتقد غياب العدالة الاجتماعية خلال العصر الفيكتوري، حيث القوانين تحمي أصحاب المصالح وتُكرّس احتكاراتهم للسلطة، وهو ما نقع عليه منذ هذه الفقرة الأولى، حيث "الضباب يلفّ كلّ أرجاء المدينة، خصوصاً في منطقة المحكمة العُليا حيث يجلس قاضي القضاة متربّعاً على عرش مجده الضبابيّ المُظلِم".
ويتابع وصْف الدخان الذي ينبعث من المداخن وينتشر على مستويات منخفضة على شكل سُحب سوداء، وهي أجواء تشكّل عنصراً أساسياً لم يغب عن عدد من أعماله، ربما لأنها كانت مؤثّرة على نحو كبير في حياته، حيث تسبّبت بإصابته هو وجميع أفراد عائلته بمرض الربو.
وثّق في رواياته ورسائله التلوّث الذي عمّ المدينة بداية القرن 19
"مدينة عظيمة وقذرة: ديكنز وضباب لندن"، هو عنوان المعرض الذي افتُتح في التاسع والعشرين من آذار/ مارس المنقضي في "متحف تشارلز ديكنز" بلندن، ويتواصل حتى الثاني والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.
يعكس المعرض كيف تناول صاحب رواية "أوليفر تويست" نمو سكّان العاصمة البريطانية مع بداية الثورة الصناعية وتحوُّلها إلى مدينة ملوّثة بنفايات سامّة وأدخنة تلفّها مثل الضباب الذي تشتهر به أيضاً، حيث يشبّهه بقوّة خبيثة في كثير من المواضع، لكنه كان يبعث فيه أحياناً مشاعر الحنين إلى الماضي.
في تلك الفترة، كان أهل لندن يعتمدون على الفحم في تدفئة بيوتهم وإنارة الشوارع، ما يعني تراكم القذارات والسخام في جميع الأماكن، كما يشير ديكنز، وهي مشكلة مثّلت تحدياً للسلطات البريطانية طوال المئتي سنة الماضية.
يشتمل المعرض على مقتنيات من البيت الذي عاش فيه الكاتب منذ عام 1856 وحتى رحيله، في شارع دوتي، ومنها لعبة البوكر الخاصّة به، التي كان يضعها في غرفة يتناول فيها الطعام، وكذلك قلمٌ استخدمه لفترة ورسومات توضيحية استخدمتها دار نشر "تشابمان آند هول" في إصدار تسع من رواياته، توضّح مشاهد الضباب التي تحدّث عنها.
ويلفت المنظّمون إلى أن الضباب أضاف بُعداً درامياً في هذه الروايات، حيث يقبّل عاشق عشيقته من دون أن يراها وسط الضباب، وهو يحجب الرؤية في مشاهد أُخرى عديدة، كما أنه يرمز إلى فساد رأس المال أيضاً. وتُعرض رسالة من ديكنز إلى شقيقة زوجته هيلين، في 16 تمّوز/ يوليو 1860، كتَب فيها عن مرض أخيه ألفريد الذي أُصيب بالتهاب حادّ في رئتيه بسبب هواء المدينة.
وثّق ديكنز في رواياته ومقالاته ورسائله التلوّث في لندن منتصفَ القرن التاسع عشر، والذي أودى بحياة مئات البشر والحيوانات الأليفة في المدينة، وكان جزءاً مهمّاً في تشكيل حياتها اليومية وعادات ساكنيها آنذاك.