انفجار مرفأ بيروت: الملحمة والروتين

انفجار مرفأ بيروت: الملحمة والروتين

08 اغسطس 2021
(انفجار المرفأ في عمل لـ نبيل مسعد)
+ الخط -

حين دوى الانفجار في الرابع من آب/ أغسطس، قالوا إنه الثاني بعد انفجار هيروشيما، إنَّ هذا البلد الصغير جدّاً، لبنان، واجه أكبر انفجار عرفته البشرية. قد يلائِم هذا، على فظاعته، الاعتداد اللبناني، الذي لا يرضى أن يكون البلد في مستوى حجمه الصغير، وأن تكون حتى فظائعه كبيرة وذات مقياس عالمي. لكن هذه الفظاعة لا تزال منذ سنة واقفةً أمام عينيه، لا تزال كما هي وكأنها حدثت البارحة. مِن الواضح أنَّ البلد لم يكبر بها، هي بالعكس ردّته أصغر ممّا هو.

إنها سنة كاملة لا يبدو فيها البلد قادراً على مواجهة ما يجري فيه، أو باختصار على مواجهة نفسه. لا يبدو بالقدرة على أن يكون حتى في مستوى مساحته الصغيرة وحجمه. هو منذ سنة لا ينجح في أن يسمّي ما جرى، ولا ينجح في أن يتجاوزه. إنه في ذلك أقلُّ بكثير ممّا حدث، وليس حتى جديراً به. لقد كان الانفجار الهائل، على هذا النحو، موضوع إنكار من جهة الدولة وحتى من جهة المجتمع. كان هنا التخلّي بأضخم صوره وأكبرها.

ظلّ الحدث لذلك يتردّد ويتواصل ويعيد نفسه كل يوم، في ما كانت الدولة تهرب أمامه، والمجتمع يدور حوله، والخبر يزداد دوياً كل يوم. كان الفعل تجاهه يكاد يساوي صفراً، ويكاد يتحوّل إلى صفر. لقد أنتجت الظروف وأنتج الوقت، ما جعل البلد يتضاءل على الخارطة، وفي المنطقة وفي العالم. لقد أنتج الواقع اللبناني ما ينفيه، وما يرتدّ عليه بالغياب والتلاشي. الحقيقة اللبنانية، منذ ذلك الحين، هي هذا الصفر، هي هذه القهقرى المستمرّة المتواصلة، وهي ما يبدو، أكثر فأكثر، أقلّ استحقاقاً للحياة وأقلّ جدارة بها.

الحقيقة اللبنانية، منذ ذلك الحين، هي هذا الصفر

"كنتُ في سريري حينما اهتزّت الجدران من حولي، وخلتُ أن زلزالاً حدث"، "كنت على شرفتي حين ... ". هكذا يروي كلُّ لبناني ماذا جرى أمامه لحظة وقوع الانفجار. إنهم يروون قصصهم في الانفجار، يروونها وكأنها لا تزال أمامهم. كلُّ لبناني يتكلّم اليوم عن انفجاره الخاص، انفجاره الشخصي. لكلٍّ انفجارُه، ولكلّ قصّته فيه. اللبنانيون اليوم يتحدّثون جميعاً كضحايا، كأنصاف أحياء. منذ وقع الانفجار لم يحصل شيء ينفيه، لم يحصل شيء يتجاوزه. إنه يبدو وكأنه يتواصل منذ ذلك الحين. إنه موجود الآن ويتكرّر باستمرار. لا يزال هو نفسه أمام محطّات البترول، وأمام الصيدليات وأمام المحلات التجارية، وفي الشوارع. لا يزال الانفجار حدثَ كلِّ يوم. إنه الآن نوعٌ من رتابتنا ومن نظام حياتنا، كلّما ابتعد كلما قابَلَنا من الناحية الأُخرى، كلما تلبّس وجهاً جديداً، وكلّما بدا ثابتاً في وقفته ولا يمكن تجاوزه.

منذ عام واللبنانيون يزدادون معرفةً بأحوال الانفجار ومجرياته. ما يعرفونه رهيب وفظيع، ولكنَّ كلّ شيء لا يزال يدلُّ أنّنا لم نعرف شيئاً، ولا يزال أمامنا ما نعرفه. ما وصل إلى الآن قصة غرائبية، كيف وصلت الباخرة إلى المرفأ في بيروت، وكيف ركمت ملايين أطنان النيترات في العنبر، وكيف أغرقت السفينة... إنها قصة غرائبية، إن دلّت على شيء فهو أنَّ الواقع اللبناني، أمس واليوم، هو بهذه الغرائبية.

لكن عند وقوع الأحداث على علاقات السلطة والمؤسّسات، تبدو وكأنها تتحوّل إلى تواقيع وأختام، إلى رسائل قد تصل أو لا تصل، وإلى يوميات أرشيفية، وإلى روتين وعاديات وتفاصيل مضجرة. إنها الآن في المجرى اليومي لعلاقات السلطة وروتينها. إنها هكذا تنضمّ إلى قصص كلّ يوم للسلطة، وإلى عرض لعلاقات ومجرياتها في كلّ وقت. بكلمة تتحوّل القصة الغرائبية والفظاعة الهائلة إلى روتين كل يوم، إلى حكاية كل يوم في دهاليز السلطة وفي طوابقها السفلية والعليا، وفي روتينها وملفاتها.

بكلمة تبدو هذه عند ذلك مجرّد أيام وتواقيع وملفات. أي أنَّ القصة شبه الغرائبية وشبه الأسطورية، تنقلب هكذا إلى نوع من إخبار، ومن رصد عادي، ومن أرشيف. يبدو دائماً أنَّ وراء الأكمة ما وراءها، وأنَّ الأسرار تزداد تسرّراً، وأنّ ما ضاع مع رواية الانفجار، وما ظهر منها، هو حكاية السلطة التي نشعر أكثر فأكثر بغيابها، والتي يومياتها تبتلعها، وأحمال الورق وملفّاتها وتواقيعها شهود آخرون على غيابها، الذي يتيح لقصص ملحمي وغرائبي أن يحدث في غفلة عنه.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون