"الهروب إلى سمرقند" لعبد اللطيف اللعبي: تأملات العاشق في زمن الوباء

01 اغسطس 2023
عبد اللطيف اللعبي في مرسيليا جنوبَي فرنسا، 2010 (Getty)
+ الخط -

بعد أكثر من ثلاثين كتاباً في الشعر والرواية والمسرح والسيرة، تقدّم رواية الشاعر والروائي المغربي البارز عبد اللطيف اللعبي (1942)، "الهروب إلى سمرقند"، سردية تشمل تجربة الكاتب الذاتية، وتقرأ تجربته وسط تغيّرات الشيخوخة، وما جاءت به الجائحة. الرواية، الصادرة حديثاً "عن دار الرافدين" بترجمة أنطوان جوكي عن الفرنسية، تدور في أيام الحجر، في الآن الذي أدركت فيهِ البشرية، أنَّها جزء من حركة أشمل، وأنّ الإنسان ليس متفوّقاً بالصورة التي اعتقدها؛ إذ بينما كان حبيس البيت، حبيس نفسه ومخاوفه أو ذكرياته، كانت الكائنات في الخارج تُواصل عيشها. وكتابة اللعبي، بصورة دائمة، تضع الإنسان في مواجهة وضع يقهره. كتابته تتأمّل مصير الإنسان وسط تجربة لا محيد عنها، مثل الاعتقال أو الشيخوخة.

كتابةٌ عرفها القارئ في كتابه الاستثنائي "يوميات قلعة المنفى" التي قصَّت تجربة اللعبي في السجن عبر أدب الرسائل. وهنا أيضاً يقع القارئ على صوت ذاتي يقرأ الخارج ويتأمّله؛ فالشخصية الرئيسية في الرواية، السيّد ناظم، كاتبٌ في نهايات عمره، ينسحب من ضوضاء العالم وفق تعبير اللعبي. وبدا أنَّ اللعبي استعار حياة هذا الكاتب، كي يقول ما أراد قوله بحرية عن تجربة الكتابة والعيش. وربما ساعدَت هذه الحيلة - الاستعانة بشخصية لها تاريخ الكاتب من غير أن يكونه - اللعبي على أن يقرأ تجربته بعين تجاوزت التجارب التي عرفها، خاصة أنّه يضع حكاية السيّد ناظم أمام تجربة الشيخوخة وأمام ترقّب الموت بسبب الوباء. اللعبي يجعل كاتبه يُكاشِف الموت بوضوح.

يؤجّل الموت كي يحكي، أو يحكي كي يؤجّل الموت

أمرٌ لا نراه فقط في أنَّ جزءاً من الرواية، جزءاً من حياة السيد ناظم، يحدث في زمن الوباء، بل أيضاً في الاستعارة التي أحدثت العنوان؛ فالهروب إلى سمرقند، هو هروب إلى الموت، لا منه. أمرٌ تقوله حكاية فريد الدين العطّار "الوزير وملك الموت"، وهي حكاية هارون الرشيد الذي رأى وزيره هلعاً من مقابلة وجه الموت في بغداد، ثمّ يستأذن الخليفة كي يهرب من الموت إلى سمرقند، لكن ملاك الموت يخبر الرشيد بأنّ موعده أساساً مع الوزير في سمرقند، لا في بغداد. بالطبع، الرشيد نزل إلى السوق متنكّراً، كي يعرف ماذا أراد الموتُ من وزيره. ويظهر الموت في رواية اللعبي رفيقَ الإنسان، يشتركان في لعبة التخفّي، لا نجزم معها من يطلب الثاني أوّلاً، من يجري وراء الآخر، ومن يهرب من الآخر. إنّها لعبة فيها قدر من المجازفة. ويجد القارئ نفسه أمام محاكمة لتجربة العيش نفسها، ووقوف على نهاياتها.

غلاف الكتاب

مع توقّف العالم في الخارج، أو انسحاب السيّد ناظم منه، تجُول الرواية في رحاب الذاكرة. أقول رحاب، لأنَّ تجربة عيش السيّد ناظم، إلى جانب تجربة العيش العادية، قد انطوت على تجربة غنية في القراءة. أمرٌ وضع الرواية في مصاف الكتب التي يستلهم منها المرء خلاصات معارف كثيرة؛ إذ اختلطت الكتب مع الحياة. وبالنسبة إلى السيّد ناظم، حتى اقتراح لغوي مثل "التباعد" الذي شاع في زمن الوباء، اعتبرها مفردة خارجة من مصطلح بريخت المسرحي.

عندما يتحدّث عن الحُبّ، تَصير لغته عذبة وشفيفة

نعرف أنَّ السيّد ناظم، الذي عاش طفولة مليئة بالطمأنينة، تعرَّض لمحاولة قتل طعناً بالسكّين في عنقه. نعرف أيضاً أنَّ السيّد ناظم عاش قصّة حُبّ لا تُصدَّق، وفق تعبيره، لكونها تقاطعت مع كفاحات بلده ضدّ الاستبداد، وامتدّت قصّة حُبّه لزوجته نصف قرن. نعرف أيضاً أنَّ السيّد ناظم اعتُقل لثماني سنوات في بلده، ونعرف أنَّه غادر بلده. كذلك نعرف يومياته كإنسان متوسّطيّ، وأسفاره، وترتيب خيباته. لكن من بين أسفاره ومغامراته، يعود إلى موضوعين بصورة متكرّرة، هُما: الأندلس وقصّة حبه. فيما صلاته مع البلد الضيق الذي خرج منه اهتزَّت، وصلاته مع العالم بصورة عامة اهتزَّت. 

يدرك السيّد ناظم أنَّ العالم الذي نعيش فيه، عالم ضائع، ودوره فيه، هو دور العربي التائه. وقد شذَّ العالم عن الأناشيد التي شبَّ عليها، خاصَّة أنَّه من جيل كان يطمح إلى أن يغيَّر العالم ويجعله مكاناً أكثر إنسانية. لعلّ هذه الخلاصة، لا تنطوي على خيبة بقدر ما تُقرّ بقصَر المرء عن فهم أبعاد الوجود، مهما بلغت تأمّلاته؛ إذ إنَّ أيّاً منَّا يقرأ جزءاً من الوجود، جزءاً تصنعه النظريات التي عرفت طريقها إلى تفكيرنا، فيما العالم الحقيقي، العالم المادي الشاسع، يختلف؛ ينمو ويتطوّر بعيداً عن نظريات البشر عنه. قد يتقاطع معها، وقد يفترق. 

وهكذا، بدا أنَّ الوباء جاء إلى النص، ليقطع استطراد السيّد ناظم في الذكريات. وبدا أنَّ الوباء، جاء كي يدفع السيّد ناظم خطوةً يُطلّ منها على الموت، ويسترق من الموت وقتاً كي يكتب فيه. ويأخذ دور الحكّاء الذي يسرق الوقت من الموت، يؤجّله، كي يحكي. أو يحكي كي يؤجّل الموت، وهذا دور شهرزاد. ثم ننتبه إلى عودة السيّد ناظم لكتابة الرسائل إلى زوجته التي تجلس في الغرفة المجاورة، ذلك أنَّ الوباء نفسه صار زنزانة. والكتابة - باعتبارها خطاباً إلى الآخر/ الند، وباعتبارها الخطاب الذي يهدهد الآخر، ويربت على مخيّلة الآخر كي يكسر عزلته، وكي يزيل شيئاً من خفوت بهجته - ليست إلّا نافذة في جدار أصمّ يعزل البشر عن بعضهم. كتابة اللعبي، تصنع هذا بدورها، بأسلوبه الذي تتقاطع فيه المعرفة والجمال والفن، مع العيش وقسوة التجربة واغتراب أن يكون المرء حالماً في عالمٍ شديد الواقعية. 

من بين صفات عديدة يمكن أن يطلقها المرء على عبد اللطيف اللعبي، ممَّا تشفُّ عنه كتابته، قد يكون أقربها إليه أن يكون عاشقاً؛ فالحُبّ في عُرف صاحب مجموعة "فواكه الجسد" هو المعركة التي تجعل البشر يستحقّون إنسانيتهم. حتى لغة اللعبي عندما يتحدّث عن الحُبّ، تَصير لغة عذبة، شفيفة. وكلماته تطمح لأن تُعرّف الوجود من منظور الحب، تسعى لأن تقضم الوجود وتحيله إلى وجودٍ شاعري. لكن ما يحدث، أنَّ كلماته يطوّقها عجز الإنسان عن فهم الحب، وعن امتلاك أسراره كافّةً... وأيضاً إدراك البشر عوز الحُبّ إلى الابتكار الدائم.


* روائي من سورية

المساهمون