إيتساسو دومينغيز: فلسطين.. الاحتلال، الاستعمار، الفصل

إيتساسو دومينغيز: فلسطين.. الاحتلال، الاستعمار، الفصل

26 ديسمبر 2023
من مظاهرة تضامنية مع فلسطين وسط مدريد، 2 كانون الأول/ ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

يُعدُّ اختيار الكلمات والمصطلحات لأيِّ فعلٍ سرديٍّ أمراً بالغ الأهمية. فالكلمات تختبئ، ولها مقاصد، وهي حيناً تتلاعب، وحيناً آخر تظهر معانيها الحقيقية وراء السطور. قد يبدو هذا الأمر بشكل واضح عندما نكتب عن فلسطين. هذا ما تؤكّده أستاذة العلاقات الدولية إيتساسو دومينغيز دي أولازابال Itxaso Domínguez de Olazábal في كتابها الذي يحمل عنواناً قويّاً ودقيقاً وموجزاً "فلسطين.. الاحتلال، الاستعمار، الفصل"، الصادر عن دار "كاتاراتا" الإسبانية، والذي تتناول فيه، بدقّة العالِم، التاريخَ الحديث لفلسطين التي "سلبها المشروع الاستعماري الصهيوني"، كما تعبّر الكاتبة، وكما هو الواقع تماماً.

قد تكون هذه بلا شك إحدى الفضائل العظيمة لهذا الكتاب الذي يحلّل، بعيداً عن العبارات المُلطّفة، الوجوهَ المختلفة للاحتلال الإسرائيلي وعواقبه على الشعب الفلسطيني منذ عام 1948. هي صيغ وطرائق تعبير غالباً ما نجدها لدى الكتّاب الأوروبيين، الذين استكان طيف واسع منهم إلى الترهيب الصهيوني وفزّاعة معاداة السامية كلّما تعلّق الأمر بكشف جرائم "إسرائيل" وطبيعتها ككيان استعماري.

يتألّف الكتاب من سبعة فصول تحلّل الجوانب والمراحل المختلفة لعملية الاستعمار والاحتلال الطويلة، التي ساهمت "اتفاقية أوسلو"، منذ فترة طويلة في إخفائها، على حدّ تعبير الكاتبة.

لن يسهم "السلام" إلّا في تجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه

في الفصل الأول، الذي يحمل عنوان "سياقٌ سرديٌّ جديد"، تركّز الكاتبة على سيطرة "إسرائيل" وحلفائها الغربيّين على السردية السائدة في معظم بلدان العالم. وقد جاءت حرب الإبادة الأخيرة التي يرتكبها الصهاينة في غزّة لتؤكّد مجدّداً هذا الأمر، لا سيّما في ظلّ ما شهدناه في خطاب صهيوني تبنّته بعض الأنظمة الغربية، والذي يحوّل الجلاد إلى ضحية ويشيطن مقاومة الشعب الفلسطيني. غير أن الكاتبة تكشف، وبجرأة، الكثيرَ من الأمور، حيث تقول: "إن هذه السردية المهيمنة تقوم أساساً على إخفاء عدم تكافؤ علاقة القوى بين إسرائيل والفلسطينيين، من خلال وصف القضية الفلسطينية بأنّها صراع وأن إسرائيل تدافع عن نفسها فقط من هجمات الفلسطينيين، الذين يُشبَّهون بالإرهابيين الذين يهدفون إلى تدمير الدولة اليهودية". 

الصورة
غلاف الكتاب

هذا الفصل هو الذي سيحدّد ويرسم معالم لهجة الكتاب ونبرته. فالفصول اللاحقة منه لن تكون إلّا في إطار تفكيك الأفكار السائدة والرواية المهيمنة ومحاولة خلق سياق تفسيري جديد لكسر هذه الهيمنة الصهيونية على مجريات الأحداث والرواية، وضمن هذا السياق، ستضع الكاتبة في قلب التحليل حقوق الفلسطينيين التي "تنتهكها إسرائيل بشكل منهجي وتكتيك دولي ينجيها دائماً من العقاب".

"تقسيم الشعب الفلسطيني" هو عنوان الفصل الثاني، وتروي فيه دومينغيز كيف أدّى الاستعمار إلى تجزئة المساحات الجغرافية والهويات والأيديولوجيات، واختبار قدرة الشعب الفلسطيني على إيجاد الدافع الوحدوي اللازم لخلق مقاومة صلبة أمام المشروع الصهيوني. وتشرح الكاتبة في هذا الإطار أن مع سياسة التقسيم واستعمار الأراضي الفلسطينية هذه، كان الهدف محو الهوية الفلسطينية ووجودها في الأراضي التي تطمع فيها الصهيونية.

في الفصل الثالث، "فلسيطينيّو الـ 67"، تتعمّق المؤلّفة في الشرذمة التي تقسّم الفلسطينيين وتخضعهم نسبياً لأنظمة مختلفة من الهيمنة وسلب الحقوق، والتي بشكلٍ أو بآخر، تُرجعها الكاتبة دائماً إلى تكتيكات وإستراتيجيات صهيونية تدعمها القوى الغربية. يكشفُ تحليل دومينغيز عن ينابيع المشروع الاستعماري الصهيوني في مساحات مختلفة: قطاع غزّة، والضفّة الغربية، والقدس الشرقية (وهو مصطلح إسرائيلي أساساً حيث لا يعترف به أهل القدس من الفلسطينيين)، و"إسرائيل"، ومخيّمات اللاجئين، حيث تقول إنّ "كل واحد هو موضوع لإستراتيجيات صهيونية مختلفة.

ففي حالة القدس الشرقية، على سبيل المثال، حاولت إسرائيل محو الوجود الفلسطيني النفسي والهوية من خلال إستراتيجيات مختلفة بهدف إعادة توحيد المدينة تحت سيطرتها فعلياً. وفي حالة الضفّة الغربية، يخضع السكّان الفلسطينيون لهيمنة مزدوجة هي السلطة الفلسطينية (شرطة أوسلو وأداة رئيسية لفرض السلام الليبرالي الذي يروّج له الغرب) وإسرائيل، التي تحتفظ بالجزء الأكبر من السيطرة العسكرية على الأراضي، لكنّها تفوّض السلطة الفلسطينية للحفاظ على أمن المناطق التي يُفترض أنها تتمتّع بالحكم الذاتي".

الصورة
الباحثة والكاتبة الإسبانية إيتساسو دومينغيز دي أولازابال
الباحثة والكاتبة الإسبانية إيتساسو دومينغيز دي أولازابال

في الفصل الرابع، تواظب الكاتبة على تحليل ونقد ما تسميه "ظاهرة السلطة الفلسطينية"، وليدة "اتفاقيات أوسلو"، حيث تقول: "لقد فقدت السلطة الفلسطينية شرعيّتها بتعاونها في الحفاظ على نظام الاحتلال الذي تفرضه إسرائيل. فقد تحوّل قطاع غزة؛ الذي اعتبره تقرير برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي عام 2020 غير صالح لحياة الإنسان، سجناً بالمعنى الدقيق للكلمة، لا سيّما في ظلّ الحصار والحرب الدائمة التي تفرضها إسرائيل، حيث يخضع سكّانه البالغ عددهم مليوني نسمة، لظروف معيشية محفوفة بالمخاطر بشكل متزايد".

تنتقل دومينغز في الفصل الخامس من الكتاب إلى تناول التمييز الذي تعرّض له الفلسطينيون عام 1948 من قبل الاحتلال وإلى وضع اللاجئين الفلسطينيين. فهناك، تبعاً لها "مجموعتان تمَّ إهمالهما، بشكل منهجيّ، في مشاريع السلام، التي صمّمها 'المجتمع الدولي' على مقاس دولة إسرائيل". وتتابع في هذا السياق: "أدّى الاحتلال إلى تفاقم التوترات والخلافات بين المجموعات المختلفة في فلسطين. لكن، مع هذا كلّه، أظهرت أحداث عام 2021، والتي وُصفت بـ'انتفاضة الوحدة'، أنّ الدافع الوحدوي للمقاومة الفلسطينية لا يزال حياً، وتقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية كبيرة في إدامة المشروع الاستعماري الإسرائيلي".

تخصّص الكاتبة الفصل السادس لـاتفاقيات أوسلو، والتي ترى "أنّها أسهمت في توليد مساعدات دولية وفيرة ومتحالفة مع إستراتيجيات الهيمنة الإسرائيلية ومتواطئة معها، حيث تتحمل 'المساعدات الدولية' التكاليف التي يتعيّن على دولة الاحتلال أن تتحملهّا للحفاظ على السكّان وتمويل السلطة الفلسطينية؛ وهي الدولة الزائفة التي تخلق وهْم الحكم الذاتي الفلسطيني، وحل الدولتين".

الفصل الأخير من الكتاب مخصّص لتحليل الأشكال الجديدة للمقاومة الفلسطينية، وخلق مساحات جديدة تربط بين مختلف النضالات في المجتمع الدولي، ذلك أن الفلسطينيين، وكما تعبّر الكاتبة، "يجب أن يخلقوا مقاومة على يد جيل مترابط، ذلك أنّ السلام التي تحاول إسرائيل فرضه، بدعم من القوى الغربية، ومن سلطة أوسلو، لن يسهم إلّا في تفاقم تجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه".

تنقل الكاتبة شعور التضامن العميق مع القضية الفلسطينية
 

ما لفتني في هذا الكتاب أمران: الأول أنّ كاتبته تتعامل مع واقع الشعب الفلسطيني الراهن من منظور متعدّد، إذ لا تقرأ الحاضر فحسب، بل تتناول فلسطين من أبعاد تاريخية وظرفية، وتُظهر قدرة كبيرة على ربط الأحداث  بتطوّر السجالات والتحليلات حول القضية الفلسطينية، وهو ما ينمّ عن ثقافة عالية وعن وعي وجرأة، لا سيما حين تصف الاحتلال والاستعمار وسياسات الفصل العنصري.

الأمر الثاني هو شعور التضامن العميق الذي تنقله الكاتبة مع القضية الفلسطينية، وهذا ما يشعر به القارئ عبر صفحات الكتاب وتحليلها الدقيق لتفصيلات الأمور المتعلّقة بالإنسان الفلسطيني، حيث، وكما تقول: "لا يُحرم هذا الإنسان الذي يعيش مع ملايين من الفلسطينيّين حول العالم، من ماضيه ومستقبله فحسب، بل يبدو أيضاً أنّ حاضره محكومٌ بالانتظار الأبدي. والمشكلة في حالة 'التعليق' الأبدية أنّها مرتبطة بمصالح استراتيجية وبقوى إقليمية ودولية كبرى". 

لا أعرف لماذا حين قرأتُ هذا المقطع من الكتاب، راحت أصوات في رأسي تردّد عالياً ما كتبه، مرّةً الشاعر نجوان دوريش: "تَعِبَ المعلَّقون/ أَنزِلنا لنستريح/ نَجُرُّ تواريخَ لا أَرضَ ولا سماء./ يا رب أَرِح ذبيحتك".

* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا 

المساهمون