"التوثيقية": كيف تُسترجع القدرة على إنتاج الأثر؟

15 يونيو 2021
ماوريتسيو فيراريس في 2013 (تـ: ليوناردو سيندامو، Getty)
+ الخط -

"لماذا علينا أن نترك أثراً؟" سؤال يحضر كعنوان فرعي لكتاب "التوثيقية" للمفكّر الإيطالي ماوريتسيو فيراريس (1956)، وهو سؤال مطروح على قارعة التاريخين الفكري والأدبي ضمن تنويعات متعدّدة: لماذا نكتب، لماذا نؤرّخ، لماذا اختُرعت المكتبات، وقبلها الكتابة والكتبُ، لماذا أَخَذَت الصورة هذا الموقع المحوريّ في عالمنا (...) فما الجديد الذي يقترحه فيراريس ويبرّر وضع كتاب ضخم عنه، وهل أتى - بعد ذلك - بما لم تستطعه الأوائل؟

في الحقيقة، لقد تجدّد السؤالُ نفسه. تجدّد بشكل جذري. ليس بجهد المفكّر الإيطالي، ولا حتى بجهود مفكّري العالم الحديث جميعهم. تجدّد السؤال مع تسارع النزعة التوثيقية على مرأى ومسمع جميع المعاصرين من دون مرافقة فاعلة وواعية من العقل البشري. حدث ذلك في زحمة من التطوّرات التكنولوجية الباردة، والتي لم تكن تهدف - بالطبع - إلى تحقيق أحلام الفيلسوف الألماني باومغارتن أو الموسوعي ديدرو أو الكاتب الأرجنتيني بورخس، بتجميع كل المعرفة في مكتبة أو حتى كتاب واحد. كانت هذه التكنولوجيات قد دخلت فقط سباقاً محموماً للتطوّر من أجل التطوّر ورهانات اقتصادية أخرى، وبـ"ضربة من غير رام" نجحت في تحقيق أمنية سهر جرّاها الموسوعيّون والمُنظّرون والروائيون، ولم يتقدّموا خطوة عملية واحدة.

يدرس شروط القدرة على إنتاج الأثر وتمريره في الزمن

يُحاكي فيراريس كل ذلك بسرد حكاية في مفتتح الفصل الأول من الكتاب؛ "كتالوغ العالم"، حيث يذكر قصة عالمين بلجيكيين، بول أوتليه وهنري ماري لافونتان، اقترحا في نهاية القرن التاسع عشر إنشاء مؤسسة عالمية تجمع كل الآثار المعرفية للبشرية، أو على الأقل تبنّي خريطة تتيح الوصول إلى أي أثر، وقد أثبتا نظرياً أن الأمر ممكن، بعد أن جرى إقرار توحيد أنظمة التصنيف المكتبية (النظام العشري). مشروعٌ سيصطدم بتاريخ أوروبا العنيف طوال النصف الأول من القرن العشرين، وقد عرضه العالمان البلجيكيان على حكومات الدول الكبرى، لكنها كانت مشغولة بالحروب، فضاعت جهود الرجلين حتى توفّيا ورافقمها المشروع إلى المقبرة.

أكثر من ذلك؛ انفجرت المعرفة وتضخّمت في عقود النصف الثاني من القرن العشرين حتى بدا طموح العالمين البلجيكيين مثل يوتوبيا مضحكة. لكن "حلم أوتليه ولافونتان تحقّق بالفعل بعد ذلك بوقت قريب: إنه شبكة الإنترنت"؛ هكذا كتب فيراريس، وهو يفسّر موت المشروع وانبعاثه بشكل جديد.

يرى المفكّر الإيطالي أن العالمين البلجيكيين قد اقترحا جهازاً بيروقراطياً لإشباع حاجة عميقة في نفس الإنسان، في حين أن البشرية تُسخّر مقدّراتها - بشكل عفوي - لتحقيق هذا الهدف، فمن قبلُ جرى اختراع الكتاب كتكنولوجيا جديدة تستوعب المرحلة الذهنية التي بلغتها البشرية، وكذلك جرى اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي ومسجّلات الصوت وغير ذلك. كلها أدوات لملاحقة الأثر البشري، لا يحتاج اختراعها تخطيطاً مسبقاً، إنها تظهر في التاريخ كنتيجة لرغبة دفينة.

هكذا يبني فيراريس سردياً إشكالية عمله، ومن ثمّ يبدأ بضخّ شبكة مفاهيم - متأتية من الفلسفة أساساً - لفهم هذه النزعة التوثيقية التي توجّه البشرية بشكل خفيّ، فالأرشيفات والمكتبات وأجهزة تخزين المعلومات تمثّل عقولاً صامتة توجّه المجتمعات، وبالتالي فإن فهم الكيفية التي تعمل بها هذه الأجهزة هو أولوية لعلها تعوّض الأولوية التي انهمك فيها العلم لقرون؛ فهم كيف تعمل الطبيعة.

ورغم أنه يشير في مقدّمة الكتاب (تحمل عنواناً طريفاً؛ "الزواج وسنوات في السجن") إلى أننا لا نحتاج الفلسفة كي نرى ونحصي الأشياء التي تؤثث العالم؛ "القروض البنكية، الكفاءة العلمية، الانتخابات، الثورات، الضرائب، الألعاب، الحروب، البعثات الإنسانية، أسعار المحروقات"، هي أشياء غير مرئية لكنها متداولة ضمن جهازنا المعرفي مثلها مثل "الحصى والأشجار وحبات جوز الهند"، بل إنها أكثر حضوراً من كل تلك الأشياء المرئية. غير أن الحضور حين يغطس في كثافة مرعبة يُصبح أقرب إلى الغياب، وهذا الشعور بات يبرز أكثر فأكثر مع التضخّم المتسارع للمعارف.

لا تقوم المجتمعات على التواصل، إنما على التوثيق

من هنا، نبدأ في إدراك أن شيئاً ما بات ناقصاً في علاقتنا بالعالم، فيستدعي لنا فيراريس فرعاً فلسفياً يبدو مهجوراً منذ فترة؛ الأنطولوجيا أو علم الموجودات، فبدونه تضمحلّ روابط كثيرة مع العالم. كما يؤكّد أننا في حاجة إلى شكل معرفي آخر هو الإبستميولوجيا، ويعرّفه بـ"التناول العقلي لما نعرفه"، بحيث إن الأنطولوجيا هي في النهاية حقلُ الذوات (أي ما يوجد) فيما أن الإبستيمولوجيا تمثّل حقل المعرفة بما يوجد.

حسنُ استعمال هاتين المعرفتين هو ما ينقدنا من "انهيار الكائن داخل المعرفة" وفق عبارة رشيقة للمفكّر الإيطالي. وهو يرى أن أحد أسباب تعقّد العالم من حولنا هو الخلط بين وجود الأشياء ومعرفتنا بها، أي الخلط بين الأنطولوجيا والإبستمولوجيا.
مختصر القول هو أن عبورنا للعالم مرهون بالقدرة على التعامل مع مكوّناته وحالات تحوّلها إلى آثار، لكنه يلفت إلى قضية دقيقة تتمثّل في كون عملية التحويل التوثيقي (من موجودات إلى آثار) لا يقوم بها الإنسان الفرد، بل مكوّنٌ غامض، هو عبارة عن عقل جماعي، يسبق كل معرفة فردية ويجعل من المجتمع ممكناً.

يؤكّد فيراريس، في المقابل، أن تطابق معرفتنا بالعالم مع ما يقترحه هذا العقل الجماعي يعني أيضاً خللاً في عبورنا للواقع بما يقتضيه ذلك من تجديد شبكة الآثار التي لا يمكن توريثها كما هي. كل عبور في العالم ينبغي أن تكون الفردية أحد أبعاده، وهو ما يعبّر عنه بشكل طريف بقوله: "إن فرديّتنا ما هي إلا خطأ في التصنيع".

بعد ذلك، ينهض فيراريس بمشروع اقتراح "نظرية عامة للأثر" هي أشبه بخارطة ذهنية لما يتحرّك في الواقع ويوجّهه. يقسّم صاحب كتاب "وداعاً كانط" الموجودات إلى ثلاث فئات؛ الموجودات الطبيعية تلك التي لها حضور في الزمان والمكان بمعزل عن الكائنات المفكّرة، ويسمّى الفئة الثانية بالموجودات الاجتماعية، وهي لا تحضر في المكان ولها حضور زمني مرتبط بتفاعل الكائنات المفكّرة، وأخيراً هناك الموجودات المثالية، وهي لا تحضر لا في الزمان ولا في المكان، كما أنها مستقلة عن الكائنات المفكّرة.

هناك منظومة عفوية تربط بين هذه الفئات وعناصرها. منظومة يحتكّ بها الإنسان يومياً ويتعامل معها ببساطة، لكنها تسحقه في أحيان كثيرة. يضرب المؤلف مثال استعمال ورقة نقدية من دون التمعّن في عمق مفهوم المال، في حين أن عالم المال الخفيّ يمسك بمصائر الناس، وبالتالي لا ينبغي الاطمئنان إلى القدرة على التعامل مع العالم، إذ ينبغي أن تسندها قدرة ترتيبه، وصولاً إلى أخذ الحق في ترك أثر. في السابق، مُنعت شرائح اجتماعية من تعلّم الكتابة كي تظل بلا أثر، وقد تكون الماكينة السوسيواقتصادية اليوم شكلاً جديداً من أشكال المنع من ترك أثر.

كتاب التوثيقية

هكذا يفتح كتاب فيراريس نافذة على خطر أن يفقد الإنسان القدرة على إنتاج أثر، يسمّي ذلك بالتوقيع، وبالنسبة له فإن الكتابة لا تزال في عمق كل عملية صناعة أثر، وبهذا المعنى يأخذ عقد الزواج معناه وكذلك سجلّ المساجين، فالعلاقة الطيبة وحدها مثلها من الفكرة الجيدة تظلّ مهدّدة بابتلاع الزمن، والسجين الذي يضيع اسمه من السجل كأنه لم يقترف جرماً. إنها نماذج بسيطة جداً يؤكّد من خلالها فيراريس أنه "لا يوجد ما هو اجتماعي خارج النصوص"، أي أن الأثر بما يُضمره من امتداد زمني هو شرط الاجتماعي. يكتب فيراريس بوضوح: "لا تقوم المجتمعات على التواصل، بل على التوثيق".

حين تعود أمثلة الزواج وسنوات السجن في آخر الكتاب نتفطّن وقتها إلى المعاني الدفينة لعنوان مقدّمة كان يبدو مسقطاً. في البداية، نظن أن هذا العنوان قد وُضع طريفاً كي يخلق بعض الإثارة والجاذبية، لكننا سننتبه أن الأمر أكثر عمقاً، حيث تقوم روابط خفية أشبه بنظام الهيبرة بين فصول الكتاب. وهناك تلاعبات أكثر طرافة تضمّنها كتاب المفكر الإيطالي، كأن يقترح على القارئ طريقة غريبة في تلقي العمل، حين يشير إلى أنه يمكن لـ"المستعجلين أن يقرؤوا الكتاب دون مقدّمة كل فصل وسيصلون إلى مبتغاهم من فهم أفكار العمل، أما المستعجلون أكثر فيمكنهم الاكتفاء بمقدّمة كل فصل والربط بينها وسيصلون إلى النتيجة ذاتها".

اقتراح غريب من المؤلف. لعلّه محاولة مختلفة لترك أثر، وهو الذي أكّد طوال عمله أن "إنتاج الأثر" يحتاج إلى جرعة من التفرّد. ما يجيز ترك الأثر، باختصار، هو القدرة على تثبيت القاعدة والخروج عليها (يحتاج الأمر إلى ترتيب العالم قبل ذلك). الأثرُ مَثَله - عند فيراريس - مثل التوقيع، هو كتابة للاسم بمعايير مختلفة، على الرغم من كوننا نعرف قواعد رسم الحروف جيّداً.

بشكل ما يجيب فيراريس عن سؤال حارق في الثقافة العربية: لم هذا التوقّف عن المساهمة في الإنتاج المعرفي العالمي؟ إذا صغنا هذه الإشكالية بعباراته قلنا: نحن اليوم بلا أثر. وها أننا نعرف أنه توجد شروط لا بدّ من تشغيلها لاسترجاع القدرة على إنتاج الأثر.

 

بانتظار إجازة فرنسية؟
مؤخراً، صدرت الترجمة الفرنسية من "التوثيقية" عن منشورات "سير"، وكان العمل قد صدر أوّل مرة عام 2009 بلغته الأم، ثم راجعه وطوّره مؤلفه في طبعة جديدة عام 2020 هي التي اعتمدتها النسخة الفرنسية. 

منذ نهاية التسعينيات، بدأ ماوريتسيو فيراريس يراكم المؤلفات ضمن تيار فكريّ يُعرف بـ"الواقعية الجديدة". لم يظهر له "أثر" بعدُ في العربية، ربما هو مثل مفكرين إيطاليين آخرين ينتظر إجازة لغة وسيطة كالفرنسية كي يصلنا. من مؤلفاته الأخرى: "مانيفستو الواقعية الجديد"، و"أنطولوجيا الهاتف المحمول"، و"وداعاً كانط"، و"تاريخ التأويلية".

المساهمون