جبرا إبراهيم جبرا.. فلسطينيون في قلب الحداثة

جبرا إبراهيم جبرا.. فلسطينيون في قلب الحداثة

25 ديسمبر 2019
(جبرا إبراهيم جبرا)
+ الخط -

في كتاب "الحرية والطوفان" الصادر في عام 1960، جمع الناقدُ والروائي والرسام والشاعر الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (بيت لحم 1919- بغداد 11 كانون الأول/ ديسمبر 1994) عدداً من أهم مقالاته المكتوبة بين عامي 1949-1960، فكان أول كتاب له في سلسلة كتبه النقدية المتوالية منذ ذلك التاريخ، كتب تعادله وتضيف إليه، منها: "الرحلة الثامنة" 1967، و"النار والجوهر" 1982، و"الفن والحلم والفعل" 1985، و"تأملات في بنيان مرمري" 1989، بالإضافة إلى رواياته وأعماله الشعرية والتشكيلية وما ترجم من كتب تردّدت أصداؤها في الأوساط الثقافية العربية.

ولكن هذا الكتاب، وما تلاه من كتب، بما حمله من رؤى حداثية تناولت الشعر والمسرح والرواية والفن التشكيلي وجلت بعض المفاهيم النقدية، لم يحسب في إطار المساهمة الفلسطينية في حركة الحداثة العربية، أو لم يحتل هذه المكانة بهذه الصفة بسبب إقامة صاحبه في العراق وتغلّب الاهتمام بالثقافة الغربية على غالبية مقالاته.

ويبدو أن هناك أسباباً أخرى أبعدت الأضواء عن دور الحداثيين الفلسطينيين في المضمار الثقافي بشكل عام، والنقد والشعر بشكل خاص، على رأسها غياب الوطن الفلسطيني ومحوه عن الخريطة في أعقاب عام 1948، واختزال قضية هذا الوطن بعد تعرضه للاستعمار في كبسولة سياسية.

كتاب "الحرية والطوفان" لا يعيد إلى الذاكرة هذا المثقف الموسوعي متعدّد المنجزات فقط، وجملة من الرواد الذين كتب هو ذاته عن بعضهم في كتابه، بل يعيد إلى الذاكرة قضية المساهمة الفلسطينية المؤثرة في حركة الحداثة العربية عبر الترجمة عن الروسية والألمانية والفرنسية والإنكليزية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر فصاعداً، وعبر الوعي النقدي الحيّ في شتى شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الذي ساهم في إشاعته أساتذة فلسطينيون عرفتهم الجامعات العربية والأجنبية.

بحيث يمكن القول إن الحداثيين الفلسطينيين يكادون يكونون هم الوحيدين بين الحداثيين العرب الذي امتلكوا تأثيراً على صعيد الأوساط الثقافية العالمية، والغربية بشكل خاص، ويكفي ذكر اثنين من هؤلاء هما بندلي الجوزي (1871-1942) و إدوارد سعيد (1935-2003)، وكلاهما مقدسي، لمعرفة أن الفكر الحداثي الفلسطيني تجاوز تأثيره الحدود إلى العالم الواسع.

وأحسنت دار مجلة شعر، ناشرة كتاب "الحرية والطوفان" في بيروت، حين أشارت إلى أنها "رأت أن تجمع بعض هذه الدراسات النقدية في هذا الكتاب اعتقاداً منها بأن مرحلة النهوض التي يجتازها العرب اليوم في مختلف نواحي النشاط الإنساني تفيد منه إفادة كبرى"

وبالفعل، لا يمكن لأي قارئ بعد كل هذه السنوات، وبعد ما مرّت به الثقافة العربية من فترات صعود وهبوط، إلا أن يدرك قيمة ما طرحه صاحب الكتاب وبقية الحداثيين الفلسطينيين، سواء عبر ترجماتهم المبكرة للأعمال الأدبية والفكرية والسياسية عن لغات مثل الروسية والألمانية والفرنسية والإنكليزية، أو عبر أبحاثهم ودراساتهم الرائدة في ميادينها.

يبدأ الكتاب الذي يمكن اعتباره نوافذ تُفتح على أكثر من جغرافية ثقافية، عربية وغربية، وعلى أكثر من حقل من حقول الإبداع، بتحليل مسألة "الذروة في الأدب والفن"، منبهاً إلى أهميتها كمبدأ أدبي وفني، ورأى أنها جاءت في نهاية تطور الفنون الأوروبية حين أمست مبنية على شكل تصاعدي يعكس النهاية الانفعالية للإنسان. ويلاحظ أن التركيب الذروي لم يوجد في الفنون والآداب العربية حتى الأيام الأخيرة، إلا في حالات شاذة.

وتتركز في مقالة "الحرية والطوفان" التالية التي اتخذها عنواناً لكتابه، وجهة الكاتب الفكرية؛ تمجيد الحرية الفردية في المقام الأول في مناقشته لفكرة الالتزام المنقولة عن الفرنسي جان بول سارتر، ويأتي بفكرة أكثر عمقاً مما أخذته الأوساط العربية من هذه الفكرة حيث "حَسْب الأديب أن يشير إلى مواضيع الساعة، ولا سيما مواضيع العرب الخطيرة، لأن يعدّ إنتاجه "ملتزماً" وبالتالي ممتازاً"، هي فكرة وليم باريت القائمة على الفعل "الوجودي العميق" والقائلة "ما نريده من الكاتب التزاماً لعصره بهذا المعنى؛ عليه أن يدمج في إنتاجه الذهن والشعور المعاصرين على أعمق مستواهما". ويرى جبرا أن "الشق الأهم في ضرورة الفعل الوجودي هو ولا ريب القلق الفردي الناجم عن ضرورة حرية الإنسان".

وإلى هذه الوجهة تتجه بقية مقالاته. يرى في ديوان "البئر المهجورة" ليوسف الخال (1916-1987) مواجهة للجدب والبوار. يكتب: "بعد عشر سنين.. بعد أن جوبهنا بالبتر في فلسطين، نكتشف أنفسنا، وفي عشر سنين رحنا نتحسّس لأول مرة نبضنا (وقبل ذلك كانت أناملنا مخدّرة) ونستقصي التمزّق في خلايانا الذي لا يتبعه النسغ إلا بعد القضاء عليه"، ويضيف: "لقد نبّهتنا نكبتنا الكبرى إلى حقيقة الذبول الذي أصاب شعباً كبيراً قروناً عديدة، إلى حقيقة العنّة الروحية التي ما عدنا نستطيع لها تحملاً. فوجد شاعر كيوسف الخال في الأسطورة البابلية خير رمز لمعاناتنا"، وفي هذا إشارة إلى الرمز التمّوزي الذي يراه جديداً في الشعر العربي آنذاك، "رمز الأرض الخراب التي يأتيها الدم أخيراً ليبعث القمح والعنب".

ويحتفي بالجديد الذي جاء به توفيق صايغ (1923- 1971)، في مقالة "في جب الأسود"، فيرى في مجموعة "ثلاثون قصيدة" ما يتجاوز ما قيل عن الشعر الحر بالمفهوم الأدق، أي الشعر المتحرّر من كل منظوم بنوعيه، العمودي والتفعيلي، إنه "ثورة لا على عمود الشعر وإيقاعه الغنائي فقط، بل على فراغه من تجربة الإنسان الجديد.. إذا أردت التجديد، فأنت لا تريده لنفسه، بل لأن لديك ما لا يمكن قوله إلا إذا جدّدت. وإذا جدّدت محمولاً على لجج معانيك ومكتشفاتك، فأنت ملق بالقديم إلقاءً تاماً لا تردد فيه.. وهذا ما يفعله توفيق صايغ إذ يدير ظهره لكل ما اعتدناه من أساليب الشعر، ويأخذ بيديه طينة هي غير ما نص عليها غيره من أصحاب النحت، ويجبل منها ويشكّل بها صوراً لم تعرفها الأعين من قبل. فما علينا إلا أن نعيد تكييف أعيننا لكي تدرك هذه الصور".

وفي سياق جلاء المفاهيم أيضاً، يتناول في مقالة "الرواية والإنسانية" مسألة إنسانية الأدب التي انتشرت مناقشاتها في خمسينيات القرن الماضي، ويتخذ من نماذج روائية بارزة في روسيا وفرنسا وإنكلترا وأميركا مدخلاً، يصل منه إلى أن شعوب هذه البلدان تعتز بهؤلاء الروائيين "لأنهم هم الذين يصوّرون شخصية بلادهم ونفسيتها، هم الذين يتغلغلون إلى أعماق روحها ويسجّلون أحلامها وكفاحها وبحثها عن السعادة البشرية". ثم يطرح السؤال على القارئ العربي "أترانا ننتج الآن أدباً (كالأدب الغربي الذي أطلعنا عليه أصلاً أو مترجماً) يستطيع بحكم الشكل والنوع أن يعبر عن نزعاتنا الإنسانية في كفاحنا الحياتي؟".

في السياق نفسه نجده يقدّم ما يشبه تاريخاً للرومانسية في الثقافة الغربية. وتنصرف بقية مقالات الكتاب، باستثناء يوميات وخواطر وضعها تحت عنوان "أقنعة الحقيقة والخيال"، إلى عرض أعمال أدبية مهمة ومؤثرة في هذه الثقافة يتصدرها أول مقال على جانب كبير من نفاذ البصيرة في اللغة العربية يتناول رواية "الصخب والعنف" للأميركي وليم فوكنر.

كذلك جاءت مقالته "أُغنية نفسي" إضاءة فريدة من نوعها لقصيدة الشاعر الأميركي المعروفة بهذا الاسم، وحلّل بوعي متمكن مسرحية هاملت لشكسبير تحت عنوان "هاملت بين العبث وضرورة الفعل" كشف فيها عمّا تسمّى مشكلة هاملت الراغب في الانتقام لمقتل أبيه غيلة، والعاجز المتردد مع ذلك عن اتخاذ أي فعل، وينصرف بدلاً من ذلك إلى مناجاة ذاتية ومخاطبات مبطنة مع الآخرين تشبه الألغاز؛ منبع التردد وما اعتبره النقاد عجزاً، هو باختصار، حسب رؤية جبرا، وصول هاملت في تأملاته إلى عبث أيّ فعل ولامعناه، حتى لو كان انتقاماً لجرح أصابه في الصميم، انطلاقا من أن الوجود نفسه لم يعد ذا معنى في نظره.

الوجود كما رآه "حديقة لم تعشَّب، شاخت وبزّرت" وما قيمة أي فعل في عين من يقول: "..والإنسان ما أروع صنعه! ما أنبله عقلا! .. ومع ذلك كلّه، ما خلاصة التراب هذه؟".
في النهاية، وبعد أن يتناول الكتاب شاعرية الإنكليزيين وليم بليك وبايرون، ورواية "الغريب" للفرنسي ألبير كامي، يقدّم مقالة استقصائية عن الفن الحديث في العراق، والمعني بذلك الفن التشكيلي تحديداً، رسماً ونحتاً، ليس ككاتب من خارج هذه الحركة الفنية بل كمشارك، ناقداً ورساماً، في التنظير لحركات هذا الفن الذي كان جبرا إبراهيم جبرا أكثر النقاد وعياً ببواعثها وآفاقها.

المساهمون