ما للفأس ولا للنار منها نصيب

ما للفأس ولا للنار منها نصيب

09 ديسمبر 2017
(مقطع من عمل لـ شوقي شمعون، لبنان)
+ الخط -

لكل زمان أوثانه. بعضها قديم تتوارثه الأجيال المتعاقبة. والآخر مستحدث تخلقه الظروف المستحدثة. بعضها يتمتّع بـعبادة الناس أجمعين. وبعضها تنحصر عبادته في طبقة دون غيرها من طبقات المجموعة البشرية.
من ظنَّ أنّ الوثنيّة تحطّمت ومضَتْ دخاناً في الفضاء أيام تحطّمت الأوثان ومضَتْ دخاناً في الفضاء كان على ضلال مبين.

ذلك لأنّ الوثنيّة فكرةٌ تتجسّد لا جسد يفكّر. وقد تتجسّد في خشبة مثلما تتجسّد في كلمة. وفي الحالين ما للفأس ولا للنار منها نصيب. فأنتم بتحطيمكم قنديل الكهرباء لا تحطمون الكهرباء. وأنتم بحرقكم كتاباً لا تحرقون فكر الكاتب الذي ألّفه.

وما هي الوثنيّة؟
هي أن يخلق الإنسان خالقه، ثم أن يمضي في عبادته كما لو كان في الواقع يملك القدرة المطلقة على إسعاده وإشقائه. فيسترضيه بكل عزيز وثمين.

والعبادة درجات: منها الحارة، ومنها الفاترة، ومنها الباردة، ومنها ما ليس أكثر من كلمة طائشة تفتّش عن معنى فلا تجده. أما العبادة الحارة فهي أن يقدّم العابد لمعبوده بسخاء ما بعده سخاء قرابين من فكره وقلبه وجسده كالتي يقدمها العاشق لمعشوقه، أو كالتي تقدّمها الوالدة لمولودها. وأمّا الفاترة فهي دون الحارة سخاء بكثير. وأما الباردة فهي الشُّح بعينه. وأما التي ليست سوى كلمة طائشة تفتش عن معنى فلا تجسّده فهي عبادة الشفاه دون الأفكار والقلوب والأجساد.

وأخشى أنّ هذه الأخيرة هي العبادة الأكثر انتشاراً ما بين الذين يدّعون عبادة الإله الأوحد، الأزليّ الأبدي، الكائن في كل مكان، القادر على كل شيء والعالم بكلّ شيء. أما العبادة الحارة فقد وقفوها على أوثانهم. وما أكثر أوثانهم!

أتعجبون لقولي إن عبادة الله وعبادة الأوثان تمشيان، حتى في أيامنا هذه، جنباً إلى جنب، وإن ظلّ الأولى يكاد يغشى الثانية إلى حدّ أن يجعل منها ظلّاً لا غير.

أما ترون إلى الطفل كيف يأخذه الزَّهْو وتعبث به النشوة كلّما صوّر صورة على حائط، أو بنى بيتاً من الطين، أو صنع صفّارة من القصب، أو غير ذلك من الأعمال الصبيانية؟ تلك هي "مخلوقاته". وهي في نظره عجيبة وحريّة بأن يقدّم لها القرابين من فكره وقلبه وجسده. ففيها قد جسّد جانباً من المواهب الكامنة في كيانه، فكانت له مرآة تعكس بعض ما في نفسه. وهو إذ يعبدها إنما يعبد نفسه.

قلت إن عبادة الله وعبادة الأوثان تمشيان جنباً إلى جنب. وهو قول ليس بالمبتكَر ولا بالجديد. ولا بدعة فيه ولا تجديف. فمنذ ما يقارب الألفي سنة خاطب الناصريُّ أبناء جلدته ــ أحفاد إبراهيم وإسحق ويعقوب ــ بقوله: "لا يستطيع أحَد أن يعبد ربّين ... الله والمال". فالناصري كان يعلم أن أبناء الله وشعبه المختار ما عبدوا الخالق إلا أشركوا في عبادته أوثاناً خلقوها هم وراحوا يسفحون على أقدامها دم القلب ونضارة العمر. ومن تلك الأوثان المال. وهو ما يزال الأعظم والأهمّ بين أوثان هذا الزمان.


* مدخل كتاب "الأوثان"، ميخائيل نعيمة.

المساهمون