"تجربة النقد الموسيقي": برمجة الذوق في تونس

"تجربة النقد الموسيقي": برمجة الذوق في تونس

17 ديسمبر 2017
(غرافيتي في ساحة الحكومة، القصبة، تونس، تصوير: فتحي بلعيد)
+ الخط -

قد يبدو الحديث عن أغنية أو تقييم مهرجان فنّي تمريناً بسيطاً في إبداء الرأي، ذلك حين يُنظر إليه في الغالب كمادة مكتفية بذاتها، لكن حين يوضع في إطار أوسع وتسلّط عليه أضواء من زوايا متعدّدة، فإننا سنجد هذا الرأي أو ذاك مختزناً لسياسات عامة، يقف معها أو ضدّها.

في كتابها "تجربة النقد الموسيقي في تونس"، الصادر أخيراً، عن "مركز تونس للمنشورات الجامعية في العلوم الموسيقية" و"منشورات سوتيميديا" و"مخبر البحوث في الثقافة"، تتناول الباحثة التونسية، عائشة القلالي، مسألة السياسات الثقافية في تونس عبر مرآة مزدوجة؛ الموسيقى والتعامل الصحافي معها، ومن خلالهما تكشف كيف جرت برمجة التقبّل الفنّي في تونس حسب التوجهات الذوقية التي تريد الدولة تعميمها.

هكذا يمكننا تلخيص العمل في محاولة بلورة إجابة عن سؤال "ما هي تداعيات استراتيجيات الإعلام لدولة الاستقلال على مجالات الفنون، والموسيقى بشكل خاص؟". وفي سبيل ذلك اشتغلت القلالي على بناء مركّب لتقاطعات تواريخ مجالات عدة؛ منها النقد الموسيقي كمجال معرفي، والمشهد الموسيقي في تونس، والصحافة المكتوبة وفرعها المتمثل في الصحافة الثقافية، وعبر المساحة التي تصنعها تقاطعات هذه التواريخ، تنظر في مسألة السياسات الثقافية في تونس، والتي كثيراً ما بدت مثل منطقة يصعب التوقف عندها وإيجاد عناصر للمسك بها.

تنطلق هذه العملية من أفق أوسع من الإطار التونسي؛ إذ تعود المؤلفة إلى تاريخ النقد الموسيقي بشكل عام، وإلى تاريخ الصحافة المكتوبة في العالم العربي، ترفده بمقارنات مع سياقات موازية في الغرب، فتجد أن "الصحافة الموسيقية في العالم العربي محتشمة بالنظر إلى ندرة مشاريع صحف ومجلات متخصصة"، والمعلوم أن الحال لا يزال كذلك.

المفارقة أن الاهتمام بالنقد الموسيقي كان أوضح في بداية القرن العشرين مع ظهور مجلات مثل "روضة البلابل" ومجلة "الموسيقى" وهي تجارب توقفت بعد فترة قصيرة لينحسر النقد الموسيقي في صفحات تخصّصها من حين إلى آخر وسائل إعلام يغلب عليها الوصف الأسلوبي أو الجانب الانطباعي.

من بين التفسيرات التي تقدّمها المؤلفة لذلك، أن النقد الموسيقي يحتاج إلى تخصّص ثنائي يجمع بين المعرفة الصحافية والمعرفة الموسيقية، لكن العامل الأهم في عدم تبلور هذا المجال النقدي هو حضور مناخ سياسي يطغى فيه البعد الرقابي من أجل تمرير رؤية دون أخرى. هنا، ينتقل الكتاب إلى تاريخ آخر، تاريخ الصحافة الذي عرف دائماً ضغط السلطة السياسية، وفي السياق التونسي عملت الدولة على احتكار المجال الإعلامي برمّته منذ الاستقلال.

تقول المؤلفة "لقد كانت علاقة الدولة بمختلف حقول المعرفة والإبداع والنشاط الفكري والثقافي عموماً، تتحدّد حسب تصوّر السلطة الحاكمة لعلاقة الدولة بالمجتمع"، ومن هذا المنظور "استغلت السلطة السياسية وسائل الإعلام لتمرير ثقافتها التي يسطّرها الحزب على حساب الثقافات المحلية للمجتمع"، وحيال ضغط الأجهزة "أُجبرت وسائل الإعلام على تمرير خطاب إعلامي نمطي قائم على الدعاية السياسية"، وبالتالي أصبحت هذه المجالات الإبداعية أجهزة تنفيذية تابعة، ومن هنا قد نتحسّس أصول إعاقات كثيرة عاشها ولا يزال المجالان الثقافي والإعلامي في تونس.

ترصد القلالي عملية تركيب "المشهد الموسيقي"، والذي حكمته مؤثرات عدة من الشرق والغرب، وقد حاولت الدولة العمل على ضبطه من خلال هياكل مثل الإذاعة والمدارس الموسيقية ومصالح التوثيق. من أهم النقاط التي يكشفها هذا المسح هو "حظر الموسيقى الشعبية في الإعلام" من أجل صناعة ذوق عام قريب من ميولات السلطة "التحديثية"، بالإضافة إلى تسريب الخلط بين الولاء الوطني والولاء السياسي في الأغنية.

يستند التحليل الذي تقدّمه القلالي إلى متن خاص، حيث انتقت نماذج من جرائد تونسية خصّصت مجالاً للنقد الموسيقي. اختارت الباحثة، في فترة زمنية ممتدة (1956 -2010)، ثلاث جرائد هي "الرأي" (معارضة) و"العمل" و"الحرية"؛ وهما نفس جريدة الحزب الحاكم بين تسميتي مرحلتي بورقيبة وبن علي، علماً أن اسم الحزب نفسه تغيّر مع تغيّر اسم الرئيس.

خلاصة النظر في النماذج الصحافية أكدت للمؤلفة، أن النقد الموسيقي لم يكن يستفيد من مناهج هذا المجال، حيث يستند الكتّاب إلى أذواقهم الشخصية، وهذه لم تكن تخرج عن ذوق برمجته الدولة من البداية، وكانت الصحافة الحزبية تكتفي بمواكبة التظاهرات الرسمية والترويج لإنجازات السلطة السياسية، أما "الرأي" فقد عملت على نقد سياسات المهرجانات واختلال التوجه السياسي في الثقافة ومظاهر الزبونية وتغليب المصلحة السياسية؛ وهكذا بدت الموسيقى آخر اهتمامات النقد الموسيقي.

النظر في الحال الثقافية التونسية اليوم يظهر أن ما تتحدّث عنه القلالي لم يكن سوى بذور ترعرعت في المناخ التونسي وعفّنته، غير أن السياسات الثقافية، إلى يومنا هذا، لا يبدو أنها تأتي بطرح مختلف، فلا تزال - مع تحوّلات شكلية - عند نفس المنهجيات، ترفع من تشاء وتخفض من تشاء بسياسات التمويل والمناصب وغيرها. إنه اعتقاد السلطة الراسخ أن الثقافة مزرعة على ملك الدولة.

المساهمون