وجه مصر الذي رأيت في إسطنبول

23 يوليو 2019
+ الخط -

زرت إسطنبول لأول مرة في حياتي مطلع هذا الشهر ودرت في شوارعها أيامًا، ورأيت فيها الكثير من مصر ليس فقط في شكل المباني والمساجد العثمانية، فحين دخلت مسجد السلطان محمد الفاتح والسلطان سليمان، أحسست كأني عُدت إلى رحلات المدرسة إلى مسجد محمد علي بقلعة صلاح الدين بالقاهرة، لكنّ رؤيتي لمصر هناك كانت في مقابلة أصدقائي بعد سنين من الفراق.

لست هنا لذكر ما تلتقي فيه إسطنبول مع مصر في النواحي المادية والمجتمعية، فهناك اختلاف وتباين عريض، لكني أعرض صورة رأيتها في لقاءاتي مع أصدقائي المصريين هناك، التقيت بالكثير من أصدقاء الطفولة والدراسة والثورة ومن جمعتني بهم جماعة الإخوان المسلمين قبل أن اختار الخروج منها في 2015، وأصدقاء جمعتني بهم سجون الاستبداد في مصر بين عامي 2014 و2015، هم كُثر لم أرهم منذ الانقلاب العسكري في مصر الذي فرّق أبناء الأسرة الواحدة ودفع بالمئات من الشباب المصري المخلص إلى مغادرة وطنهم خشية القمع والتنكيل من نظام العسكر.

كان الشوق يغلبني للقاء هؤلاء ومعرفة ما فعل الشتات بهم، خاصة وأنني كنت قبلها بأيام أعرض ورقة بحثية اشتركت فيها مع أستاذي د. خليل العناني عن الشتات المصري في تركيا في مؤتمر "الهجرة والشتات" بمنتدى مراكز البحوث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ORSAM، وقدمت الورقة دراسة للفاعلية السياسية للمعارضة المصرية هناك. وعقدت لذلك مقارنة بين "جماعة الإخوان المسلمين" و"المجلس الثوري المصري"، وقد حفلت الورقة بمقابلات بحثية مع عدد من قيادات الجماعة وتحليل لأبرز تصريحات قيادات المجلس الثوري المصري. 

خلعت رداء الباحث وفككت الخطاب الأكاديمي عني وجلست مع الأصدقاء، نتذكر الأيام في مصر، طفولة ومدرسة وجامعة وثورة وانقلاباً ومعتقلاً، وسرد الكثيرون منهم قصص خروجهم من مصر سواء عبر المطارات أو عبر الحدود وما تبعه من العيش المرهق في إسطنبول ومحاولاتهم المضنية للبحث عن عمل مناسب وتعلّم اللغة التركية، ومعضلة الاندماج في المجتمع الجديد، والشبكات الاجتماعية الجديدة التي أقاموها في البلد المضيف ومحاولات الكثيرين منهم للحصول على حق اللجوء السياسي في دول أوروبا وأميركا وكندا.

قصدت إثارة النقاش السياسي في كل جلسة لأعرف وجهة نظرهم فيما يدور من أحداث، خاصة على مستوى الأزمة المزمنة التي تتعرض لها المعارضة المصرية من الخارج، ودون الخوض في تفاصيل، استشرفت بصيصًا من الأمل في وعي الشباب من أبناء الشتات المصري، يبدو أن هذه التجربة قد أضافت الكثير والكثير لعقولهم، خاصة من الذين هاجروا مصر في سن صغيرة، قابلت أحدهم قد ترك مصر وهو في سن الـ16 عامًا خوفًا من الملاحقة الأمنية له ولأسرته، وكثيرون منهم أكملوا تعليمهم على نفقاتهم الخاصة، خرجت بهذا المستوى المبهر من الوعي النقدي الذي تكوّن في الشتات خارج الوطن وبعيدًا عن الوصاية التنظيمية والفكرية التي مورست على كثير منهم.

انطلق كثير من الأصدقاء من لحظة ثورة يناير 2011 للحديث عن المشهد السياسي المصري، فهذا الجيل، الذي أنتمي إليه، فتّح عيونه على الوعي السياسي أثناء الثورة، اتخذ الكلام من الثورة نقطة البداية ومن الانقلاب نقطة التقهقر والتراجع وفقدان أي من مكاسب الحرية والتحول الديمقراطي التي أتت بها الثورة، كانت إحدى المفاجآت لي أيضاً، أن تتجاوز نقطة الانطلاق في أي حل سياسي جماعة الإخوان المسلمين، رغم انتماء الكثيرين إليها، سواء من بقوا في علاقة مع التنظيم إلى الآن أو تركوه منذ بضع سنين، إلى تنظيمات قد تكون أكثر رحابة وتنوعاً وتعبيراً عن الشعب المصري المقموع.

كانت واقعية الحلول التي طرحها أصدقائي في تناول الشأن المصري مبهرة ومتجاوزة لما تصدره أجنحة الجماعة دومًا من بيانات تتعارض مع بعضها البعض ولا تقدم حلولاً واقعية للأزمة المصرية بعد الانقلاب العسكري، لمست في هؤلاء الشباب واقعية مبنية على الفهم الدقيق للعمل السياسي، بالطبع لم تأتهم وحيًا أو من وراء حجاب، بل مِن تمرّس سياسيٍّ في سن صغيرة واحتكاك مباشر مع قيادات العمل السياسي الذين تصدّروا المشهد المعارض بعد انقلاب 3 يوليو 2013 والذين أخطأوا تقدير الحسابات في مقاومة استبداد العسكر، وراحت ضحية الحسابات الخاطئة أعداد كبيرة من الشباب والمقدرّات، تحدث عدد من الأصدقاء عن حجم السذاجة في قيادة المشهد السياسي بعد الانقلاب وما نتج عنه من ضرر شخصي لهم ولأسرهم وذويهم قادتهم إلى خارج البلاد دون أي جدوى سوى تغلغل العسكر في الحكم وتشتت المعارضين أكثر وأكثر.

كان الحديث مع الأصدقاء مليئاً بكل صراحة وشفافية وودّ، فلا هو حديث أمام شاشات تليفزيونية يتنافس الساسة فيه كل يوم على تكرار نفس الكلام في برامج مختلفة، والتأكيد على تمسكهم بأشياء لم يقدروا كيفية الحفاظ عليها، وفي بعض الأحيان مخالفة لما يعتقدون. كانت السمة الغالبة هي فقدان الثقة بهؤلاء القيادات وعدم الاعتداد بما يكررونه لسنوات أمام شاشات التلفاز وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في الجلسات السرية التي جمعتهم مع عدد من الحكومات والسياسيين دون الأخذ بخطوة واحدة قد تحلحل الأزمة في مصر.

كان همّ الحياة المرهقة في المجتمعات الحديثة واضحًا في حديث أصدقائي ورغبتهم في حياة إنسانية كريمة تضمن لهم حقهم في التعليم والعمل الكريم والأمن والصحة.    

مضت الرحلة في المدينة الساحرة إسطنبول، وكانت مقابلة الأصدقاء هي ما أرتني وجه مصر في أصدقائي وفي تطلعاتهم، وبقي فقط أن يتمكن هؤلاء من قيادة المشهد السياسي لعل شيئاً يحدث.

دلالات
سيف الإسلام عيد
سيف الإسلام عيد
سيف الإسلام عيد
كاتب مصري
سيف الإسلام عيد