في الحاجة لأدبيات "ما بعد" حصار قطر

في الحاجة لأدبيات "ما بعد" حصار قطر

11 يونيو 2019
+ الخط -
أستخدمُ عبارة "الحصار" في عنوان المقال اضطرارا، من أجل التعبير عن ضرورة تجاوزها إلى "ما بعدها"، فلربما صار استخدام هذه العبارة في وصف حادثة مقاطعة قطر ضربا من الإجحاف بعد مرور عامين كانا كفيلين بتجريد عبارة "الحصار" من مدلولاتها غير المباشرة كالتفوّق والغلبة والخناق من قبل المُحاصِر، ومن تداعياتها السياسية والاقتصادية السلبية على الدولة "تحت الحصار".

إن المطّلع على الدبلوماسية القطرية في تعاطيها مع الأزمة الخليجية في مقابل الأدبيات (الكتب والروايات) التي تناولتها توثيقا و/أو تحليلا حسب السردية القطرية غير الرسمية (على قلّتها) قد يَلحظُ تباينا في مستوى التعاطي مع موضوع الأزمة واختلافا دقيقا "ذا دلالة" في زاوية النظر إليها، ففي الوقت الذي يتعامل فيه صانع القرار القطري مع الأزمة بكل هدوء واتزان، متجاوزاً فكرة ومنطق الحصار نحو "ما بعده"، يتناولها الكاتب أو المثقّف القطري من داخل حدود الحصار نفسه، وبقلم مفعم بكثير من الأحيان بمشاعر الأسى والتوجع، والتذبذب ما بين الصدمة والقطيعة والعتاب.

من الكتب التي تناولت موضوع الأزمة كتاب (حصار قطر: توجعات من الزمن الآني) للكاتب الصحافي القطري خالد الزيارة. يوثق الكاتب من خلاله ما حصل من وقائع منذ بداية الأحداث وحتى تاريخ إصدار الكتاب في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، ومن بين تلك الأحداث، قرصنة وكالة الأنباء القطرية، والخطاب الرسمي الأول لأمير دولة قطر بُعيد الأحداث الأولى.

كتاب آخر صدر في ديسمبر/ كانون الأول 2017 تحت عنوان (تميم المجد: مقالات من داخل الحصار)، للصحافي القطري أحمد علي، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات يتناول الكاتب من خلالها عبر أسلوبه الساخر بعض حيثيات الأزمة منذ لحظة اندلاع شرارتها الأولى.

وفي أغسطس/ آب 2018، صدر كتاب آخر للكاتب الصحافي خالد الزيارة، تحت عنوان (حصار قطر: عام على الصمود)، يواصل الكاتب من خلاله ما بدأه في كتابه الأول، منطلقا من الحضور الدبلوماسي لقطر في المحافل الدولية، وكيفية إدارة الأزمة داخليا وخارجيا، ودور الإعلام القطري في معالجة الأزمة، بالإضافة الى تأكيد دور مجلس التعاون الخليجي كمنجَز تاريخي مهم بالنسبة للشعوب الخليجية. ومن الأعمال الروائية الأولى التي عبّرت عن الأزمة أدبياً وسلطت الضوء على الجانب الإنساني فيها رواية (امرأة في زمن الحصار) للكاتب القطري الدكتور هاشم السيد، والتي حاول من خلالها وعبر أسلوب السرد الوصفي توثيق ما أسفرت عنه الأزمة من انتهاكات إنسانية واجتماعية.


أُسلّط الضوء من خلال هذا المقال على أحدث مؤلَّف حول الأزمة الخليجية وحادثة المقاطعة، وهو كتاب للباحث والإعلامي القطري، فالح بن حسين الهاجري، تحت عنوان (حصار قطر: الجذور والسياقات واستراتيجيات المواجهة)، الصادر في يوينو/ حزيران 2019، أي بعد عامين تماماً من الحصار. والذي يحاول الكاتب من خلاله، باعتباره أحد "أبناء الخليج العربي"، استكمال دراسة وتوثيق الأزمة الخليجية بأبعادها وانعكاساتها حتى اللحظة.

ينطلق الكاتب في بداية مقدمته من تصور حول مسألة الهوية الخليجية، فالأزمة حسب الهاجري بقدر ما شكلت هزّة قوية لدولة قطر إلا أنها في الوقت عينه هزّت الثقة في "الهوية الخليجية المشتركة لبلدان مجلس التعاون الخليجي"، (ص 11)، وأسهمت في تمكين الهوية القطرية وتعزيز التلاحم ما بين الشعب والقيادة، وترسيخ الانتماء للدولة، وإعلاء ذلك الانتماء على أي انتماءات أخرى عابرة للجغرافيا. وهو تصوّر قد يفتح الباب باعتقادنا أمام تساؤل: مدى ترسّخ تراتبية الانتماء للدولة أمام الانتماءات الأخرى (القبلية على وجه الخصوص) إذا ما حُلّت الأزمة الخليجية وتم إنهاؤها.

ينطلق الهاجري في كتابه من عدة افتراضات أهمها:
- أن قطر استطاعت على الرغم من الحصار المفروض عليها تحقيق العديد من المكاسب السياسية والاستراتيجية، وذلك لأسباب تعود الى الإخفاق في أساليب وتكتيكات دول الحصار، واستراتيجيات النخبة القطرية في المواجهة وتحريك القوة الناعمة، بالإضافة الى المعادلات الجيوسياسية الحاكمة في المنطقة.

- وأن مجلس التعاون الخليجي أصبح من الماضي، بفعل فشله في إدارة الأزمات الخليجية المتتالية وتجاهله أكبر أزمة تهدد المنظومة الخليجية كاملة.

- وأن الشرخ الحاصل بين دول الخليج العربي أدى بدوره إلى تشكّل محاور داخل المجلس تكاد تصل الخلافات بينها حد المواجهة. (ص 12، 13).

وتنطلق أهمية الكتاب ومساهمته الرئيسية حسب الكاتب من شمولية تناوله للأزمة الخليجية الأخيرة، وتوثيقه لآثارها، وتطرقه إليها من مختلف الزوايا (التاريخية والاجتماعية والسياسية والجيوسياسية والاقتصادية، والرهانات المستقبلية)، وهو ما لا يتوفر حسب الهاجري في الأدبيات التي قدّمها الكتّاب الخليجيون على وجه الخصوص. بالإضافة لافتقاد الأدبيات المتوافرة للشمولية والعمق والمهنية في آن معا. وهو بذلك يعد القارئ بشكل غير مباشر بأنه سيجد جميع تلك العناصر مجتمعة في مؤلَّفه، وهو أمر يصعب جدا تحققه من خلال مؤلف واحد، إلا إذا تمت التضحية بواحد من تلك العناصر، وفي الغالب تتم التضحية بعنصر العمق في التحليل من أجل تجاوز هذه العقبة.

يَعدُ الهاجري حسب تعبيره بتحرّي الموضوعية والدقة العلمية في معالجته للأزمة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ويعترف "بموضوعيةٍ" في مقدمة كتابه بانحيازه المسبق "للقيم العربية الخليجية الإسلامية" (ص 14)، وعلى رأسها قيم حق الجوار والأخوة. وقد يُعذر الكاتب في تحيّزه لارتباط الأمر بحدث استثنائي، هدّد وطنه وتعدّى على سيادته من غير وجه حقّ؛ فالوطن معروف بكونه "خطا أحمر" عند كل حرّ وشريف، شريطة أن لا يدفعه تحيّزه المحمود ذاك الناجم عن كونه في كفة المُعتدى عليهم إلى مجانبة الموضوعية وعدم تحري المصداقية في توثيق الحدث، من غير زيادة عليه ولا نقصان.

يُقَسّم الهاجري كتابه إلى خمسة فصول، فصل حول الجغرافيا السياسية لمنطقة الخليج مع التركيز على دولة قطر. وفصل آخر حول الخلفيات التاريخية للأزمة الخليجية منذ عهد الحماية البريطانية. وفصل ثالث حول الحصار وبداياته، والدوافع المباشرة له، و"الاستراتيجيات" المعتمدة من قبل دول الحصار للتأثير على السيادة القطرية. أما الفصل الرابع فيتناول استراتيجيات دولة قطر في التعامل مع الحصار وتحويله إلى ورقة قوة لديها. وفي الفصل الخامس والأخير يتناول الهاجري انعكاسات الأزمة على علاقات قطر الخليجية والإقليمية والدولية إلى جانب المعادلات السياسية الجديدة في الإقليم.

يتجاوز الكاتب فصل مراجعة الأدبيات لإجراء تحديد أدقّ لمساهمته البحثية والثغرات الموجودة في تلك الأدبيات من أجل ملئها باعتبار أن مساهمته الرئيسية تتمثل ربما في شمولية تناوله للأزمة وإحاطته بمواضيعها الرئيسية، وتوثيقه لجديدها (حتى نهاية العام الثاني للحصار) وبنائه على ما هو متوافر من الأدبيات وجمعه لأهم ما تم تناوله وتوثيقه من قبل باحثين وكتّاب آخرين أيضا تتسم معظم أعمالهم بالموضوعية والعمق، وإحالته إليها عبر الهوامش والمراجع، مستخدما في كتابه عدة مناهج ومقاربات وأدوات بحثية، كالمقاربة الواقعية في العلاقات الدولية في الفصل الأول، والمنهج التاريخي في الفصل الثاني، وأدوات تحليل الخطاب والجداول الرقمية في الفصول اللاحقة، مع مساحة لرأيه الخاص في بعض المسائل والوقائع بحكم مناصبه وتخصصاته واطلاعه على بعض المعطيات الخاصة ونقاشاته مع ذوي الخبرة والاطلاع، لا سيما كبار السن في المجالس الشعبية، إلا أنه كان من الجيد أكثر ربما الاستفادة من تلك الظروف عبر إجراء مقابلات موسّعة مع خبراء وسياسيين ودبلوماسيين لإضفاء مزيد من الغنى والعمق على عملية التوثيق والتحليل.

يمثّل كتاب فالح الهاجري باعتقادي مقدمة جيدة لفهم الأزمة الخليجية ومدخلا مهما للاطلاع على أبجدياتها ومتعلّقاتها، بدءا من العامّ البعيد أحيانا، إلى الخاص الأكثر ارتباطا، وانتقالا من بديهيات الحصار إلى مسائله الأكثر تشابكا وتعقيدا، وذلك عبر طرحٍ مبسّط ولغة سلسلة ونبرة "هجينة" تجمع بشكل فريد ما بين الإعلامية (لا سيما في العناوين وبعض العبارات) والبحثية العلمية في الطرح والتناول، قد تناسب أذن القارئ العاديّ أكثر من المحلل والمتخصص، لا سيما أن الكتاب موجّه في الأصل كما يُستشف من سطوره للأجيال الحاضرة والقادمة إذا ما أرادت الرجوع إلى دليل يوثّق بأمانة ومصداقية الأزمة الخليجية و"حصار" قطر. وقد تكون النقاط التالية على سبيل المثال لا الحصر من أكثر ما يجدر تسليط الضوء عليه في كتاب الهاجري لما فيها من موضوعية وشفافية، وجرأة أيضا في التنظير:

أولا: التسوية التي قامت بها الدوحة والرياض في أعقاب أزمة سحب السفراء، وما نتج عنها من تنازلات من بينها التأثير على قناة الجزيرة من أجل صرف النظر عن بعض الملفات الحساسة، من بينها الملف اليمني، وزجّ الدوحة جنودها في الحرب اليمنية "في مسعى منها لاستيعاب الجار الأكبر الغاضب" (52)، وتحمّلها كلفة الانتقادات من قبل المنظمات الحقوقية والاتحاد الأوروبي، لا سيما بعد المجازر التي ارتكبها طيران التحالف في اليمن وبقائها في التحالف على الرغم من اقتناعها بأن الحرب على الحوثيين بدأت تنحرف عن أهدافها لتصبح حربا على اليمن والشرعية والمقاومة اليمنية (100).

ثانيا: لجوء الدوحة إلى اتباع جميع الاستراتيجيات المتاحة لمواجهة الحصار، والاعتماد على العلاقة مع الولايات المتحدة واحتضانها في الأساس لأكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط (173).

ثالثا: موقف الدوحة التاريخي مع الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز بعد انقلابه في أغسطس 2008، وتوجيهها دعوة رسمية له لحضور القمة العربية التي استضافتها قطر عام 2009، وما شكله ذلك من حبل نجاة له بعد انقلابه، على الرغم من العقوبات الاقتصادية والسياسية التي كانت مفروضة عليه آنذاك من طرف الاتحادين الأوروبي والأفريقي، وتفريطه وتنكره لما قامت به قطر عبر إقدامه على قرار قطع العلاقات مع دولة قطر استجابة لحملة دول الحصار (204).

رابعا: إضافة عنصر رابع لمصادر الشرعية الثلاثة التي تحدث عنها ماكس فيبر، وهو عنصر "الإنجاز"، وهي مساهمة لافتة وجرأة إيجابية في التنظير، إلا أنها تحتاج إلى مزيد من الشرح والتفصيل والتعليل والإثبات، والأمر كذلك بالنسبة لعبارة "والمحصلة الأهم من كل ذلك تحقيق قطر لنقاط مهمة في مؤشر الديمقراطية" (158)، وعبارة "من المستحيل، في معادلات السياسة الإقليمية لمنطقة الخليج، أن تستمر أزمة كأزمة حصار قطر لأمد يتجاوز 5 سنوات" (235)، والبند المتعلق بالإسناد الدولي للوساطة الكويتية المدعوم بالموقف الأميركي (على وجه الخصوص) من أجل بلورة حل للأزمة الخليجية (236)، وادعاء أن من مصلحة أوروبا الاقتصادية والأمنية أن تتعامل مع دول مجلس التعاون الخليجي ككتلة واحدة (224).

وكغيره من الأعمال، لا يخلو كتاب الهاجري من بعض الثغرات، كالمبالغة في تصوير المملكة العربية السعودية في موقف المتودد لقطر والمستجدي لوساطتها من أجل مساعدتها على الخروج من أزمتها الدولية مقابل إنهاء الحصار وإعادة مياه العلاقات إلى مجاريها (12، 227)، واعتبار الجمهورية الإيرانية عملاقا اقتصاديا (33) واعتبار حركة الإخوان المسلمين حركة جماهيرية سياسية، في حين هي في الأصل حركة اجتماعية، جماهيرية (54)، وبعض المفارقات المتناقضة، كتصوير قناة الجزيرة تارة كأداة سياسية خارجية لدولة قطر من خلال اصطفاف قطر مع الثورات بشكل غير رسمي عبر التغطية المكثّفة للقناة للأحداث في الثورة التونسية مثلا (48)، والتعبير كذلك عن توجه الدوحة إلى التقليل من حدة التغطيات الإعلامية من قبل قناة الجزيرة للأحداث المتعلقة بالدول الخليجية، الأمر الذي يوحي كذلك بأنها أداة سياسية بيد الدوحة (89) ووصف القناة في موضع آخر بالمؤسسة الإعلامية المستقلة (50). بالإضافة لوضع دولة الكويت مرة في كتلةٍ وسيطة ميّالة لكتلة الحصار (185) ومرة في المحور الممانع لمحور الحصار إلى جانب قطر وسلطنة عُمان (194)، واعتبار الحماية البريطانية مرة حماية (72) ومرة وصاية (15) ومرة هيمنة (60)، والتفريق ما بين سيناريو انسداد الأبواب وعدم انتهاء الأزمة، وسيناريو العناد والمكابرة باعتبارهما سيناريوهين مستقلين، علما بأن السيناريو الأول هو نتيجة طبيعية للسيناريو الثاني (233، 235). إلى جانب بعض مواطن التكرار، كالإشارة إلى أن ثابتيّ: مصالح قطر الداخلية، واستقرار منطقة الخليج العربي والحفاظ على أمنه، هما ثابتان جديدان في سياسة قطر منذ عام 2008، على الرغم من أنه قد تم ذكرهما سابقا من ضمن ثوابت فترة ما بعد الاستقلال (38، 39، 54، 55).

ما أود قوله نهاية بعد هذه المراجعة لأدبيات الأزمة الخليجية حسب خطاب الفاعلين، أو حسب السردية القطرية غير الرسمية، وبعد مرور عامين على الأزمة الخليجية، مستلهماً عبارتين من مقال ساطع نور الدين (الخلاف الخليجي كمطلب عربي، في جريدة المدن)، إنه على الرغم من أهمية الكثير مما كُتب حول حادثة المُقاطعة بهدف محاولة التحليل والتوثيق التاريخي، إلا أن الوقت قد حان للعبور من أدبيات حصار قطر و"مرحلتها الانتقالية" نحو أدبيات مرحلة ما بعد الحصار، الأدبيات التي تتعامل مع مقاطعة قطر (كحالة طبيعية)، وتبحث في شؤون (الإمارة الجديدة) من منطلق ظروفها الجديدة كمعطيات تاريخية وجغرافية.
170E9E2F-D711-4E58-82A2-67613F55D08B
سليمان كريمة

باحث، حاصل على بكالوريوس العلوم المالية والمصرفية من الجامعة اللبنانية الدولية، وماجستير بحثّي في التمويل من جامعة الأناضول في تركيا، ويدرسُ الماجستير الثاني في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في معهد الدوحة للدراسات العليا.تُلامس اهتماماته البحثية: الاقتصاد السياسي للحركات الإسلامية، وما يُسمى بــ"ما بعد الإسلاموية"، تأثير الأحداث السياسية على الأسواق المالية، وقضايا التنمية، والحقوق والحريات الاقتصادية.