سمر رمضاني... بعدما أعدموه أطلقوا سراحه (6)

سمر رمضاني... بعدما أعدموه أطلقوا سراحه (6)

18 مايو 2019
+ الخط -
انعقدت جلسة السمر الرمضاني مرة أخرى في منزل ابن بلدنا "أبو ماهر" بمنطقة (esenler) الإسطنبولية، بعدما جرى الاتفاق على أن يتحمل تكلفةَ الدعوة في كل يوم أحدُ السامرين، باستثناء "أبو الجود"، المعروف بيننا بأنه مفلس، وأن إفلاسه يشبه لزقة بزر الكتان التي تُلْصَقُ بظهر الإنسان من أجل امتصاص الألم، وبعد أن يزول الألم تبقى ملتصقة ولا يمكن اقتلاعها إلا بعمل جراحي بالغ الدقة!

كان "أبو ماهر" وأولادُه ينقلون أطباق الطعام ويصففونها على السفرة الطويلة المصنوعة من النايلون، وتفوح منها الروائح الزكية التي تفتح النفس، و"أبو جمال" يساعدهم في النقل والترتيب، ويفتح زجاجات السوس، والعصير، والتمر هندي، والجَلَّاب، ويوزع محتوياتها السائلة على الكؤوس الفارغة، ثم يصففها على أطراف السفرة،.. وأما صاحب الدعوة فكان يقول: 

- أهلين وسهلين بالشباب. يا مرحبا. والله صدق المتل اللي بيقول: جَبَل مع جَبَل ما بيلتقي أما إنسان مع إنسان بيلتقوا. 

قال كمال: هذا المتل نفسو موجود في اللغة التركية، من يومين تعلمناه في دورة اللغة التركية: (Dağ dağa kavuşmaz ama insan insana kavuşer). وأنا بشوف أنو هالمتل مو صحيح.

قال الخال أبو جهاد: ليش مو صحيح؟ نحن كنا عايشين في بيوتنا، ومبسوطين، ولما طلعوا الشباب يطالبوا بالحرية بلش ابن حافظ الأسد يطبّ علينا قنابل وصواريخ وبراميل، فانقتل اللي انقتل والباقي هربوا، ونحن اللي هربنا ضعنا في البراري وفي المخيمات، وبعدها دخلنا ع مدينة الريحانية، وأنا رحت بعدها إلى بلدة "قيصري" وعشت فيها تلات سنين، وبعدها جينا إلى إسطنبول، والتقينا كلنا هون. يعني المثل صحيح.

قال كمال: أنا ماني حابب أتفلسف، ولكن، اسمحْ لي قلكْ إنّو في عشرات ومئات وألوف من الناس كنا نشوفُنْ، ومنحب نشوفُنْ هلق، لاكن بعضهُنْ انقتلوا، وبعضُن الآخر في سجون الأسد، أو في سجن العقاب عند جبهة النصرة، وقسم كبير من اللي منحب نلتقي فيهن صاروا وراء البحار في دول أميركا وأوروبا، وكل دول العالم صارت تطلب من السوري الفيزا، وما بيعطوها إلا لطويل العمر. وأنا خطر لي هذا الخاطر لما سمعتْ "أبو جمال" عم يحكي عن لقاء الإنسان بالإنسان، لأن "أبو جمال" راح تلت عمره في سجن تدمر، وهناك في مساجين بيموتوا من الإهمال، أو تحت التعذيب، أو بينقلوهُن لأماكن أخرى وبتنقطع أخبارُنْ، يعني أن الجَبَل يمكن أنو يلتقي مع الجبل، ولكن مستحيل يلتقي كل الأشخاص اللي دخلوا السجن مع بعضُنْ في يوم من الأيام.

قال أبو جمال: خطرت لي حكاية مرة رواها قدامنا أبو مرداس. قصدي حكاية محمد ابن الحاج سعيد لما طلع من سجن تدمر. 

والتفت إلي وقال: ممكن تحكيها للشباب؟

 

قلت: هيي حكاية مسلية ومعبرة، ولكنها مؤلمة. وأنا كنت شاهدْ عليها. الحقيقة أنو حافظ الأسد، في سنة 1980، أمر بتصفية تنظيم الإخوان المسلمين، فكانت الاعتقالات متلما بيقولوا (عن أبو جَنَبْ)، يعني عشوائية، وبتتلخص في أنو عناصر المخابرات بياخدوا كل الأشخاص المشتبه بهم، وبعدما يتعرض الجميع للتعذيب بيصيروا يميزوا الأشخاص المنظمين في الجناح العسكري عن الآخرين اللي ما لهم علاقة بالتنظيم. وخلال العشر سنوات الأولى أعدموا كل اللي إلهُنْ علاقة بحمل السلاح والتنظيم، وبقي اللي صنفوهم بخانة "المتعاطفين" منقوعين في السجون لأجل غير مسمى، وهدول لا يمكن إطلاق سراحُنْ إلا بأمر شخصي من حافظ الأسد نفسه. وحافظ كان معروف عنو اللؤم والحقد، منشان هيك تْقَصَّدْ ينساهم في المعتقل. 

المهم، في سنة 1996 قررْ حافييظْ إطلاقْ سراح هدول الأشخاص المحطمين المضمحلين، على دفعات.. وهون صار عَنَّا في البلدة جو جديد، يمكن وصفه بأنه جو إشاعات. كل دقيقة بتطلع إشاعة بأنو فلان طلع من السجن، وأنو هلق في الطريق، وأنو وصل بيت أهله، إلى آخره، وكتير من هالإشاعات يتبين أنها مو صحيحة. ومرة كنا عم نسلم على أحد الخارجين من السجن وهو الأستاذ "ماجد"، فدخل علينا شاب متحمس وقال: هاتوا البشارة، من شوي طلع "محمد ابن الحاج سعيد من السجن". اندهشْ الأستاذْ ماجدْ وقالْلو: أنت شفتو؟! فقال الشاب: لا والله بس عم يقولوا.. ماجد قاطعو وقالْلُو: أشو بدك باللي عم يقولوا واللي ما عم يقولوا؟ إنته شفتو بعينك؟ قالْ الشاب: لا والله.

المهم، بعدْما غادرْ الشابْ المتحمسْ، قَرَّبْتْ أنا من الأستاذ ماجد وقلتلو: أشو القصة؟ فهمسْ لي بحذر شديد: 

- والله يا أبو المراديس هالقصة ما عَمْ تدخلْ بعقلي، أنا شفتو لمحمد ابن الحاج سعيد بعيني وهوي مْعَلَّقْ بحبلْ المشنقة، وهادا الشاب عم يقول إنو طلعْ من السجن! 

        

 

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...