شرفة أمي الفرنسية... من اليرموك

شرفة أمي الفرنسية... من اليرموك

22 اغسطس 2018
+ الخط -
ليلاً لم أنتبه، حين دخلت زائراً أبي وأمي، بعد رحلة شاقة ومتأخرة نحو فرنسا. أزيد من 8 أعوام على اللقاء الأخير.. تغير فيها حال وأحوال.. المرض ينهش أجسادنا، وأرواحنا.. نصفه استسلام نفسي، لموت ينتظر عند ناصية كل كبت..

لكن، كيف صار "شعب الخيام" اليوم؟
ما عاد وحده في تغريباته المتكررة، فلا الصهيونية توقفت ولا المدعية عروبة تراجعت، عن إمعان نوم في سرير الأولى.

ها هنا تقفز لوحة ناجي العلي، حنظلة يراقب، وفراش بغطاء قصير، الأقدام تُظهر منبت نبوءة، أو قراءة أحد أنبياء ثقافتنا وأدبنا ومواجعنا وفواجع حياتنا، قرأوا الواقع والمستقبل مراكمينهما أمامنا، قبل أن تصل الطلقة الغدارة، وتسبقها سيارة تنهي مسيرة آخر، مثل غسان كنفاني.

فعل المضاجعة هنا ليس إباحياً أو "قليل أدب"، بل أصل حكاية، أنبأت بحكايات عاشها، وسيعيشها، بلحمه ودمه شعب النكبة الأولى، وشقيقه السوري في ثانيته وثالثته.

في الصباح تُصاب بدهشة اختلاط المكان بالمكان.. أأنت في اليرموك أم في فرنسا؟

جلست أتفحص الشرفة، ينقصها قفص عصافير تزقزق في المكان، لكن الجدار كأنه هو، وحبل غسيل، وكثير من النباتات والأزهار. ثمة طقس صباحي "سقاية الزريعة"، شطف الأرض.

تغيب فيروز عن المكان. صوت الجيران، ضجيج الحارة، اختلاط اللهجات؛ فلسطينية على سورية على عراقية. هذا إذا ليس المخيم. لكأنها محاولة فردية، أو فتح بقجة ذاكرة حية، ملؤها نوستالجيا تصارع الأمكنة. وبين حب ودمار، لم يعد الجدال عن "هل قصف الأسد بالميغ؟". القصة ليست في أداة الجريمة، ولا مأجوريها، المحليين والمستوردين خصيصاً لمهمة "البحث عن طريق القدس"، فحتى في "قبيلتي" ثمة من جادل وشبح فانتهى به الحال جثة. لا فرق بينه وبين جثة متهمة من "قبيلتي" أيضاً، بطهي طعام للنازحين من التضامن في مدرسة المنصورة بشارع المدارس.

صامتاً متأملاً..
لم كان شعب اليرموك مهووساً بـ"الزريعة"؟
ليس وحده من عاش هذا "الهوس". سأكتشف حين رأيت الجليل، وناس طمرة وكوكب أبو الهيجا والناصرة والرينة؛ حيث بصقت أم هاشم حمدان نواة تمر لتمتشق اليوم مقابل المنزل، الذي لا تنطفئ إنارته عمداً لاستحضار الروح في المكان، وفيئها جرن ماء لعصافير الجليل كيلا تعطش، أصل حكاية جدتيّ ترويان بدمعتي فرح وحزن زمن صباهما في مروج البلاد.

إذاً، شعب المخيم فعلها في الأولى. حاملاً معه البلاد. طقس عشق الأخضر وطراوة الأرواح تحيط..

ربما أن بقجة الذاكرة لا تعوض عن الأصل، لا المخيم ولا البلاد. في الأول كانت مداميك التغريبة، بين يلدا والبوابة، اتسع المكان يحمل فلسطين مصغرة، من جليلها إلى نقبها. فيه راحت الرواية عن البلاد تأخذ مداها، سجال عن العودة والكفاح المسلح، واختلاط لا سبيل لسرده، فلكل سردية منهارة أن تنهل من لوحة ناجي العلي لتعرية مزيد من الأكاذيب. فحتى كشاشي الحمام ضحكوا من حجم التشيؤ وتجارة حقائب "الأيديولوجيا".

مثل أمي كثيرين. فليست فرنسا، بكل ما لا تعرفه عن ثورتها، التي أراد شباب عربي أن يفعل بعضها، مستقراً، لا للذاكرة ولا للجسد والروح. أو هكذا تكرر. فلا منادٍ، لا صوت جارة ولا هتاف ولا سجال. رتابة تكسرها بعناية أن تشبه شقتها تماماً منزلها المتواضع في اليرموك. من مطبخها المزدحم يغطي فراغ الزمان إلى شرفتها. كأنها هناك.. ليس هنا.. وإن اشتاقت لحكايات البساطة والمناكفة. ففي تغريبتها الجديدة فرق بسيط عن الأولى، وإن استبدلت صهاريج موت تهريب عبر الحدود بلاد العرب، فلهذه التغريبة بحرها الذي ابتلع أرواحاً، وأخرى ذبلت في نتائج فعل الخيبة العربية. ليس أكثر من تقنية الهاتف تنقذ نثريات أرواح، جاعلة قصة فلاش باك معيشة في أغلب اللحظات.

كانت سيرتهم الأولى عن حيفا ويافا وعكا والناصرة والجاعونة ولوبية وصفورية وفرعم والشجرة، وكل أصل لطيور التغريبة. بعد اليرموك، لم يعد الإمعان في السيرة أقل، لكنها سيرة بنكهة خيانة دالة عليها فرشة يرقبها حنظلة، منذ ما قبل تل الزعتر. في رائحة تغييب تجار السياسة لسيرته عمداً، مقابل حفنة شعارات قومجية مطعمة بفارسية موغلة في قومجية ركوب من نوع جديد.

كل ذلك لا يعني أمي كثيراً. ما يعنيها أن تقي بصرها وعقلها من جنون انهيار معنى المخيم، على يد بشار الكيماوي، الذي عولت بنفسها عليه يوماً، كما الجمع تحت يافطة "شاب عصري". معنى المخيم لا يعني سفاحاً مرضياً عنه في المعبد، في مساعي تدمير اختزال فلسطين فيه، كما دمر سورية باختزالها في "مرحباً بكم في جمهورية الشبيحة.. والمرتزقة".