قبيل النوم

21 يوليو 2018
+ الخط -
(التفكير بالموت)

قبيل النوم، ساعة الإغماضة، لكلِّ طريقتهُ في تفريغ الرأس، للدخول التدريجيّ إلى عالم النوم. ثمَّة من يسرح في الأوهام، ويتخيّل نفسه غنيّاً يمتلك سلطة كل شيء، وثمّة من يتخيَّل نفسه لاعب كرة قدم يسجّل أهدافًا حاسمة في اللحظات الأخيرة، وثمَّة من يتخيَّل حبكة لاغتيال بشار الأسد أو محاكمته، ويكون هو القاضي، وثمَّة من يفكّر في الفضاء وشساعة الكون، ليشعر بالضآلة والضمور والصغر. تتغيّر طريقة الدخول إلى عالم النوم باختلاف المرحلة العمريَّة. في الصغر، كنتُ أتخيّل نفسي بطلاً خارقًا لا يموت، ويمتلك صفات استثنائيَّة. الأرق هو وجود شيءٍ أقوى من قدرتك على نسج الأوهام، الأرق هو خنق التفكير الواقعي طاقة التخيّل. منذ فترة، أدخل عالم النوم بالتفكير في الموت، هذا الحدثُ المفصليُّ الجلل. أتمزَّق من الداخل رعبًا، وأشعرُ باللاعدالة على هذا المصير. وأعوّل على أنّ العلم ممكن سيتمكّن، قبل أن أغادر، من التغلّب على هذا اللغز الحارق. التفكير في الموت يجعلني مترفّعاً عن الصغائر، وعمّا حصل خلال اليوم، ويعطيني هالة حكمة مخادعة، ومنصّة عليا أنظر من خلالها إلى الوجود، التفكير في الموت يجعلك طبقيًا من الناحية الروحيَّة، كإحساس الترفّع عند البرجوازي. 

لا شيء يُخضِع الأرق مثل التفكير في الموت.

(القامشلي)
أدخل كل ليلة إلى صفحة على الفيسبوك بعنوان "القامشلي- مدينة الحبّ". أفتح الصفحة ليلًا، كأني أدخل بيتًا على رؤوس أصابعي بخجل. أرى صورًا للمدينة، وأخمّن اسم الحي. منذ فترة، صار المكان الذي خرجنا منه، كتلة عامّة معدومة التفاصيل. الذاكرة تدريجيّاً، بدأت تفقد القدرة على استحضار التفاصيل، وصارت شبيهة بذاكرة سائحٍ أجنبيّ زار البلد مرّات فقط. حتى المادة الأساسية للأحلام، لم تعد قادرة على رتق نزيف النسيان المطلق. لمّا تفقد أحلامك القدرة على استحضار تفاصيل طفولتك، فهذا يعني الخروج التامّ، والانفصال الكليّ.

... بكاء جدّي أثناء تلاوة سورة النبي يوسف، وأرغفة الخبز الساخنة التي تتوازن على رؤوس العجائز، والعشب الفسيح الأخضر في براري الجزيرة، وإخراج العقارب من جحورها بسكب البنزين، واصطياد الديدان لتصبح طعمًا يصيد الطيور. هذه أمورٌ، إذا نسيتها، لن أستطيع أن أحفظ أي شيء جديد.

دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسم المدوّنات وموقع "ضفة ثالثة".

مدونات أخرى