الأسد المعطاء والمذيع البَكَّاء

الأسد المعطاء والمذيع البَكَّاء

17 ابريل 2018
+ الخط -
لا شك أن ذروة المسخرة الإعلامية السورية كانت في مطلع الثمانينيات، حينما أعطت القيادة (الأمنية/ العسكرية/ الإعلامية) المشتركة توجيهاً إلى باقي المؤسسات، بتسجيل كل شيء، وكل عمل تنتجه الدولة السورية، في خانة "العطاءات" التي يمنحها القائد التاريخي حافظ الأسد لهذا الشعب المسكين، الملتف، مع ذلك، حول قيادته التاريخية الحكيمة. ومن كثرة ما (أعطى) حافظ، و(أخذ) الشعب، قال النُحاةُ: إن حافظ الأسد رجل (معطاء)، والشعب السوري شعبٌ (مئخاذ)!

وكانت فروع حزب البعث العربي الاشتراكي في المحافظات تترجمُ هذه الحالة (العَطائية) إلى صور تلفزيونية متشابهة، يُنْقَلُ بعضُها على الهواء، ويُقَدَّمُ بعضها الآخر ضمن تقارير إخبارية مطولة، يُضْطَرُّ المواطن السوري إلى مشاهدتها، خلال شهر كامل، عدة مرات في السنة.. وبالتحديد في مناسبة الثامن من آذار (مارس)، والسابع من نيسان (إبريل)، والسادس من تشرين الأول (أكتوبر)، والسادس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر)، وبعدما قتل الرائد الركن المظلي باسل حافظ الأسد على طريق مطار دمشق الدولي، أصبحت بعض العطاءات تُقَدَّمُ للشعب في شهر كانون الثاني (يناير) في ذكرى باسل الذي اعتبروه شهيداً.


اللوحة الرئيسية التي كانت تُقَدَّمُ في تلك "الهمروجات"، هي تلك التي يكتبون عليها: بتوجيه من السيد الرئيس حافظ الأسد، قام الرفيق فلان أمين فرع كذا لحزب البعث العربي الاشتراكي، بوضع حجر الأساس لمبنى الـ كذا كذا..

وكان هذا يحصل حتى ولو كان المبنى المشيد عبارة عن غرفتين ينام فيهما حارس صومعة الحبوب في قرية "بسقلا" الملتصقة بكفرنبل من جهة الشرق!.. ويجب أن يترافق أي احتفال من هذا القبيل مع طبل وزمر ودبكة وزغاريد.

ولأن نظام الأسد كان، وما يزال، مبتلى بهاجس الحكي الفارغ (العلاك)، ومولعاً بمبدأ التكرار الذي يُعَلِّمُ الحمار، فقد كان كل مبنى يُشَادُ في سورية يُحْتَفَلُ فيه مرتين، أو بموجب "همروجتين"، المرة الأولى هي "همروجة" إرساء حجر الأساس، والثانية "همروجة" التدشين الذي يكون بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات من الإرساء، وأحياناً يوضع حجر الأساس لبناء، ويُنسى من عين أصله، وقد يُلغى المشروع فيبقى حجر الأساس مزروعاً على الأرض مثل الخازوق!!..

وأحياناً يُدَشَّنُ بناءٌ ما ثلاث مرات هي: أولاً، إرساء حجر الأساس، ثانياً، التدشين، ثالثاً، الترميم! والترميم ضروري حينما يكون نهب الأموال المخصصة لهذا العمل قد تجاوز الحدود المتعارف عليها (الستاندارد)!

روى المخرج هيثم حقي، ذات مرة، على صفحته الفيسبوكية، حكايةً معبرة تقول إن إثنين من كبار أساتذة الفلسفة بجامعة دمشق اللذين درسوا بفرنسا أيام الحرب العالمية الثانية وتربوا على الثقافة الغربية اشتركا في برنامج تلفزيوني على القناة الأولى في التلفزيون السوري، وأخذ كل منهما يعدد مقولات ومفاهيم الحرية عند الفلاسفة من أفلاطون إلى اليوم، وأما المذيع فكان يقاطعهما قائلاً:
- والسيد الرئيس حافظ الأسد له قول مهم في هذا السياق!
ويستشهد بقول لحافظ الأسد لا علاقة له بالموضوع من قريب أو بعيد! وكان الأستاذان يتجاهلان مقاطعات المذيع، ويُمعنان في شرح مقولات جان بول سارتر وغيره.. دواليك حتى غُلِبَ هذا المذيع على أمره، وطلب من المخرج أن يضع فاصلاً إعلانياً.. وقبل أن ينفذ المخرج الفاصل أخذت له لقطة عفوية، وإذا به يبكي!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...