أول زيارة لمشفى المجانين

19 فبراير 2018
+ الخط -
لم تكن مشاريع الفنان الكوميدي "عمر حجو" تنتهي بعد مناقشتها بقليل كما هو الحال مع غيره من المبدعين، بل إنه كان يتبنى الفكرة في عقله، ثم يباشر بالخطوات العملية اللازمة من أجل تحويلها إلى عمل فني.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك أنه اقترح عليَّ ذات يوم كتابة مسلسل إذاعي عن العلامة "خير الدين الأسدي"، وحينما أعلمته أن موسوعة حلب المقارنة التي ألفها الأسدي ليست متوفرة في مكتبتي اشترى نسخة مؤلفة من ستة أجزاء طبعتها جامعة حلب بتحقيق محمد كمال، بـ 1500 ليرة من حر ماله، وأرسلها إلي من حلب إلى إدلب بالبريد.

فكانت هدية غالية تعرفتُ من خلالها على واحد من أهم المؤرخين الذين عرفتهم الحضارة العربية بشكل عام ومدينة حلب بشكل خاص، وبالطبع فقد أنجزنا 90 حلقة إذاعية من مسلسل (تلك الأيام) المأخوذ عن موسوعة حلب للأسدي، أخرجها مروان قنوع.

كنت حدثتكم، قبل مدة، عن فكرة مسرحية (إمبراطورية المجانين) التي اقترحها علي عمر حجو ونحن ذاهبان إلى دمشق، وقلت له وقتها إن الأمر يتطلب منا زيارة مشفى المجانين. فقال: حسناً.

بعد عودتنا من دمشق اتصل بي وقال: يا الله، يو خاي، تعال إلى حلب، لازم ندق الحديد وهو حامي، ونذهب معاً إلى المشفى.


ركبنا سيارته وذهبنا شرقاً، باتجاه مشفى الأمراض العقلية التابع لمديرية الصحة بمحافظة حلب، قطعنا حوالي عشرة كيلومترات فوصلنا قرية ما، توقف الأستاذ عمر وقال لي:
-أهل هذه القرية (يو خاي) عقلاء جداً، ولكن مشكلتهم أن مشفى المجانين يقع ضمن الحدود الإدارية لقريتهم.
قلت: لماذا تعتبرها مشكلة؟
قال: لأن من عادة الناس في بلادنا أن يطلقوا اسم (الجزء) على (الكل).
قلت : كيف؟
قال: أنت تعرف أن المجنون في لبنان يودعونه في (العصفورية) التي غنت لها الصبوحة أجمل الأغاني التي ألفها ولحنها العبقري فيلمون وهبه، وفي دمشق يأخذون المجنون إلى (القصير)، وأما في مناطقنا فيقولون: فلان جن، وأهله حطوه فـي (الدويرينة)، فإذا قال لك أحد أنه يسكن في الدويرينة ستظن أنه مجنون. حسناً، هذه القرية (يو خاي) تدعى الدويرينة، وأهلها أعقل مني ومنك!

لدى وصولنا باب المشفى وجدنا عدداً لا بأس به من الرجال واقفين عند الباب، قال الأستاذ عمر:
- هنا، عند الباب، يتواجد موظفو المشفى، وبعض المجانين غير الخطرين، فأولئك الخطرون لا يسمحون لهم بمغادرة المهاجع، والآن عليك أن تميز بين النوعين من البشر، وألا ترتكب أي خطأ.

وعلى الفور تقدم أحد الأشخاص من نافذة السيارة، وقال مخاطباً إياي:
-نعم أستاذ؟ ماذا تريدون؟
قلت: عفواً يا أخ، نريد أن ندخل لزيارة مدير المشفى.
قال: معكم تصريح؟
قلت: طبعاً. التصريح موجود مع الأستاذ عمر.

والتفت إلى الأستاذ عمر فرأيته فارطاً من الضحك، ذلك أنني كنت أتحاور مع ذلك الرجل بخشية واحترام زائدين عن اللزوم، في حين تبين أنه مجنون، بدليل أنه مد يده إلى خدي وقرصني بقوة وقال لي:
-(شي بيهوي) سيدي. أكبر تصريح بقشرة بصلة. بتعرف ولاك؟ (وأمعن في شد جلدة وجهي) أنا حصلت على حكم قضائي من دون يمين أكبر من ملحفة اللحاف، وعليه (درب تَبَّان) من الإمضاءات والأختام والحواشي، يقضي بإعادة أرضي التي اغتصبها مني واحد متنفذ، وبقيت سبع سنوات وأنا أروح وأجيء إلى المحكمة مثل مكوك الحايك، لكي أنفذ الحكم عليه، فلم أستطع. مأمور التنفيذ قبض رشاوى من المتنفذ ما يعادل نصف ثمن الأرض، أي قسماً بالله لو خوزقته لرفض تنفيذ الحكم!

وبينما هو يشد خدي ويروي لي تتمة قصته، إذ جاء ثلاثة رجال من الداخل يحملون هراوات، قبضوا عليه وأعادوه إلى الداخل.

(اتضح أنه واحد من المجانين الخطيرين وأنه كان هارباً من المهجع للتو)!
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...