عن الذين يسمُّون الملائكة تسمية الأنثى

17 اغسطس 2017
+ الخط -
 

إذا كان لي أن أدوّن، أفعل ذلك على شكل رسالة، إلى صديقة، غير محددة، ولكنّها واضحة بالنّسبة لي، وكأنها تجلس أمامي الآن وتقرأ هذه الرّسالة.

"إذن عزيزتي. كان ذلك في السنة الأخيرة من البكالوريوس. آنذاك كان يجب أن (أخترع) تخصصاً فرعياً بجانب دراستي للعلوم السياسية، كي أتخرّج. وكي لا أبدو تماماً لا مبالياً، فلم تكن المسألة فقط متعلقة بضرورة التخرّج، بل أيضاً، كان هناك بعض الهوى، هوى للاكتشاف وللتعرّض لمزيد من السخرية المعرفيّة. وتمّ الأمر، بمساعدة البعض، تم الاعتراف أكاديمياً وحكومياً، بتخصص دراسات المرأة، وكنت أوّل طالب يتخرّج وبجانب تخصصه الرئيسي، تخصص فرعي حديث وقديم في آن، هو تخصص دراسات المرأة والنوع الاجتماعي.

في البداية بالطّبع، كان هناك الانبهار. ولأنّ لديّ هوسا بالاستعارات وأكاد لا أفكّر بمسألة إلا وأخترع لها استعارة، فالاستعارة هنا هي التالية: كان العالم بالنسبة لي، مؤلّف من مساحة معيّنة من الأفكار والنظريّات، وهذه النظريات والأفكار تساعدني في تقرير المواقف وتكوين الآراء عن العالم. ولنفترض أنّ هذه النظريات والأفكار هي الدّرجة "أ" من الرؤية، وبعدما درست النوع الاجتماعي ودراسات المرأة، اكتشفت أنّ الدرجة "أ"، لم تكن هي الدّرجة الصّحيحة، وهناك الكثير من المناطق المظلمة في نظرتي إلى العالم، وعندها تبدّلت الرؤية وطريقة التفكير.

وحتّى لا أبدو ساذجاً جداً وأدافع عن نفسي كما أفعل عادة، لم تكن المسألة مسألة "اكتشاف المرأة!" واكتشاف وجودها الماديّ المظلم في هذا العالم. المسألة كانت فقط، اكتشاف مناطق مظلمة ومركّبة بصورة معقّدة في هذا العالم، كلمة الحرّية وحدها لا تكفي كي تقشع ظلمها وظلماتها، بل لا بدّ من تفكيك الحرّية وأسبابها وطرق المناداة بها. لمن تنادي بالحرّية، ولمن أوّلاً تنادي بالحرّية؟

بعد ذلك، وحينما أحسست كما يحسّ أي إنسان في مكاني، أنّي على وشك أن أعتنق قضيّة جديدة، هي قضيّة المرأة، اصطدمت بذات المنطق بقضيّة أخرى، أوقعتني في مأزق فكري حقيقي. كنت بدأت القراءة في كتب الباحث السوري منير العكش، عن إبادة الهنود الحمر في أميركا. ولوهلة، الوهلة هنا أكثر من ثلاثة أشهر، أحسست أني أقرأ عن أكثر الشُّعوب نقاءً في التاريخ. بالطّبع، فالباحث السوري، لم يألُ جهداً في تصويرهم كجماعات غارقة في الطّيبة والإنسانيّة خاصّة تلك القصص عن السذاجة في التعامل مع مكر وخبث المستعمِر الإنكليزي والفرنسي. ولوهلة أخرى، وهنا أيضاً استغرقت أشهراً، وجدتُني في موقع المراهق فكرياً، فقد وضعت المرأة والهنديّ الأحمر، في منزلٍ من بلّور، والرجل والمستعمِر في منزل من طينْ!

هنا وجدتني أحلم بامرأة من بلّور، وبشعوبٍ هنديّة حمراء، تحلمُ بالزّنابق البيضاء!

وكي أتدارك الأمر، ولا أبدو مفرطاً في التصوّرات الرومانسيّة ومندفعاً مرّة أخرى، عندما انتهيت من دراستي لدراسات المرأة والنوع الاجتماعي، وأُخِذتُ بما قرأت، اكتشفت بعد شهورٍ طويلة، أنّني لم أخالِف من يَظلُمُ المرأة إلّا لأشابهه في ظُلْمها بصورة أخرى. أنا بالطّبع لم يكن لدي وجهة نظر تجاه المرأة قبل دراستي، ولكنّ دراستي للنوع الاجتماعي حوّلت نظرتي إلى المرأة، من نظرة إلى البشر عموماً، طبعا ليست مجرّدة وإنسانيّة خالصة فهناك قضايا شخصيّة ووطنيّة تخصُّني أيضاً وتخصُّ جماعتي أو أمّتي المتخيّلة. إذن قد تحوّلت هذه النظرة من هذه النظرة، التي تشمل المرأة ككائن إنساني، إلى نظرة تجد في المرأة مخلوقاً عجيباً إذا نطق، ومخلوقاً غريباً إذا كتبْ، ومخلوقاً استثنائياً إذا أبدعْ. وأحسست أنّي لم أزد على أن وضعتُ نفسي في مكان المُستعمِرْ الإنكليزي الذي إمّا أنزلَ سكّان أميركا الأصليين منزل الوحوش الأقل بشريّة من المستعمِر الأبيضْ، أو وضعهم في منازل المخلوقات العجيبة لفرط نقائها وعجائبها الداخليّة!

وقرّرت، بيني وبين نفسي، خطأ نظرتي في أن تكون المرأة، إما كائناً استثنائياً في طيبته وعجيباً إذا تكلّم، فأنظر إليها دهشاً، أو تكون، واعذرنني، أن تكون مخلوقاً لا أثَرَ ولا مكان له.

ولذا، قررت، أن أتخلّى عن كلّ ما درسته سابقاً، وأن أتخلّى أيضاً، وأحاول أن أنسى كلّ ما درسته وقرأته في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي، وأن أتمسّك بنظرتي الأولى إلى العالم، وأركّبها وأزيد عليها كيفما اتّفق لي أن أفعل، لا كيفما اتّفق للعالم أن يكتشف مرّة النساء، ومرّة الهنود الحمر وبراءتهم.





ضمن ملف "تدوينات نسوية"

دلالات
B2C93AC8-F3A3-450D-B963-4247DCCE1E3E
أنس حسونة

باحث فلسطيني. طالب دراسات عليا في جامعة بيرزيت.