مؤانسات رمضانية (16) حط فاصل يا غبي

22 يونيو 2017
+ الخط -

حينما تحدّث أبو النور عن ولع العرب بالخطابات، سأله الخال مصطفى باستغراب: ولكن لماذا يخطب العرب بهذا الإصرار؟ ألا تعرف السبب؟

قال أبو النور: طبعاً أعرف. إننا إذا احتكمنا إلى المنطق فسوف نجد أن الخطابة هي الوسيلة الوحيدة التي يسيطر بموجبها الأقل كفاءة على الأكفأ. هل تتصور، مثلاً، شركة حكومية يديرُها شخص يحمل شهادة دنيا، ويعمل تحت يده عدد من أصحاب الشهادات العلمية العالية، ويستمر الحال على ما هو عليه من دون خطابة؟
قال خالي عمر: أنا حتى الآن لم أفهم الآلية التي يتم هذا بموجبها.
قال أبو النور: إذا أعطيتموني فرصة للتحدث على نحو موسع قليلاً فأنا جاهز.
قلنا: تفضل.
قال: إن هذا الشخص ذا الإمكانيات المتواضعة لا يستطيع أن يقارع أولئك المتعلمين المختصين بأي شيء له علاقة بعلم أو بمنطق، وهم من جهتهم لا يستطيعون مقارعته بالخطابة، لأن عقولهم منظمة وعلمانية، وإذا تحدثوا فإنما يفعلون ذلك على نحو مرتب ودقيق. هل لكم بمثال يوصلنا إلى ما نرمي إليه بكل وضوح؟
قال أخي طلال: يا ليت.
قال أبو النور:
- كان يا ما كان، في قديم الزمان، التبن في الغربال، والجمل دلال، الكاسي يخرج بلا ثياب، وأم فصيد تنتعل القبقاب. وكان ثمة رجل يدعى، فرضاً، كامل المضراب. وكان هذا الرجل اسماً على غير مسمى، فهو فاشل في كل شيء، وعاطل عن العمل. وفي يوم من الأيام نزل في قريته فريق عمل تلفزيوني، فشغّلوه معهم مساعداً للإنتاج بطريقة المياومة، وقد أحب صاحبنا هذا العمل وبرع فيه، فاقترح عليه أحدهم أن يوظفوه عندهم في التلفزيون بهذه الصفة فوافق في الحال. وحينما أصبح هناك صار "يدحش" نفسه في أي عمل كان، وينوب عن الموظف الغائب، حتى إنه، أخيراً، أصبح مذيعاً ومعد برامج.
قال الحاج عمر: بهذه البساطة؟
قال أبو النور: أي نعم، فبالأساس معظم المخرجين والكتاب والفنيين صاروا كذلك بطريقة مشابهة، وأعني دونما اختصاصات علمية، بل بالممارسة. وقد أحب كامل الخطابة حباً جماً، وصار يستخدمها لإزاحة أي واحد من أصحاب الكفاءات يأتي في طريقه، وقد انطبق عليه الموقف الذي تعرض له أخونا أبو نزار المفلسف ذات يوم بحذافيره.
قال أبو نزار متنمراً: أي موقف؟
قال أبو النور، موجهاً كلامه إلينا: تشاجر أبو نزار مع رجل أقوى منه بدنياً، ولكنه تغلب عليه بعضة قاطعة في يده. فلما سألناه عن السبب الذي جعله يعض يد الرجل قال: (والله يده صارت في فمي، فهل أتركها؟) وهذا كامل المضراب، لقد صارت وظيفة المذيع في فمه، فهل يتركها بسهولة؟
تبسمنا، فقال أبو النور: أراكم تنتظرون الجانب الفكه من الحكاية، وهذا من حقكم. يا سيدنا، السيد كامل تسلم إعداد برنامج عن الحكام العرب الذين يناصبون حاكم الدولة التي ينتمي إليها العداء، ويحاول ذمهم، ومقارنتهم مع الحاكم الذي يحبه إلى درجة العشق. وفي ذات مرة، وكان البرنامج يبث على الهواء، شرد صاحبنا وصار، في اللاشعور، يمدح حاكم الدولة الأخرى ويذم حاكمه المفدى، وحينما بدأت الإشارات تأتيه من الكونترول لكي ينتبه، ازداد اضطراباً، وصار يسب المخرج ويقول له: حط فاصل يا غبي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان).

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...