عبد الله فريكة: أنت أبي

11 ابريل 2017
+ الخط -

علم صديقي محمد علي فريكة أنني أكتب بعض قصصه وفصوله استعداداً لنشرها في إحدى الصحف، ولذلك، وبمجرد ما رآني أعبر أحد شوارع البلدة هرع نحوي وأمسك ياقة قميصي وقال لي:

- أخيراً وجدتك! قل لي بسرعة، كم يدفعون لك في الجريدة ثمناً لهذه القصص؟ مد يدك في جيبك وناولني بعض النقود، لأنني، كعهدك بي، مفلس، وقاعد على الحديدة.

- قلت له: هات من الآخر، وقل لي ما هي طلباتك؟

قال: أريد أن تشتري لي ما يزفِّر وما يحلّي وما يملّح وما يفكّه، هذه للأولاد، وتشتري لي شخصياً بطاقة شحن موبايل وبضع علب من الدخان الأجنبي الفاخر، لأن تدخين التبغ الحربنوشي المفروم بالموس جعل صدري شبيهاً بباب الحمام الخشبي الذي يتخّ من فرط الرطوبة وطرش الماء عليه عبر السنين. وأن تدفع لي خمسمئة ليرة نقداً، مصروف جيب.

صفرت بفمي صفرة طويلة وقلت له متصنعاً الدهشة: 

- الظاهر أنك لا تستحي؟ لماذا أشتري لك أنا كل هذه الأشياء وأدفع لك نقوداً فوقها؟ أأنا خلفتك ونسيتك؟

 ضحك ضحكة لفتت إلينا أنظار كل الأشخاص الذين كانوا يعبرون الشارع، وقال لي:

- يا ليتك أنت الذي خلفتني. لو كان الأمر كذلك لوجدتني أعيش حياة أفضل من حياة الملوك بكثير! ولكن حظي السيئ يلاحقني من يوم أن كنت صغيراً في اللفة. حظي يا أستاذ يشبه المال المزكى، فهو لا يتلف، ولا يضيع، ولا يغرق ولا يحترق، ولا يُرَد، ولا يُبدل. ووالله العظيم، من خمس وخمسين سنة لم يتركني حظي من يده اليمنى ليده اليسرى. 

قلت: يا محمد علي لا تنس ما معك، وقل لي لماذا تتمنى أن أكون أنا أباك؟ 

قال: لأنك تعطيني ما أطلبه منك دون تردد أو تذمر، وأما أبي، رحمة الله عليه، فكلما ذهبت إليه وقلت له: "أعطني خرجية". كان يمد يده إلى جيب الشروال ويرسلها في العمق، وأنا أنتظر وأفكر أن الرجل الذي يرتدي الشروال، كلما ذهبت يده عميقاً في أسفل الجيب كلما غرف مزيداً من النقود، حتى ثبت لي العكس، فهذا البحث المعمق عند أبي كان يعني أنه يبحث عن الفرنكات القليلة التي يمتلكها، وكان يخرجها من جيبه بصعوبة ويقربها من عينيه، لأن بصره شحيح، ثم يقول لي:  

- معي ستة فرنكات، خذ أنت ثلاثة، وأنا أترك لنفسي ثلاثة.

فأتركه وأمشي دون أن آخذ منه شيئاً. 

قلت له: كانت ظروفه صعبة.

قال: أعرف، ولكن الإنسان ذا الظروف الصعبة تكون نفسيته طيبة، على عكس أبي الذي كان نكدياً. وكان متزاعلاً مع أمي في أغلب الأيام، وكان هذا ينعكس علي وعلى إخوتي بشكل سلبي.

قلت: عفواً، كيف كان ينعكس عليكم؟

قال: أنا مثلاً، حينما كنت رضيعاً، لم يكن يضعني في حضنه، ولا كان "يكاغي" لي. وبمجرد ما يدخل إلى البيت كنت أخاف منه وأعملها في "الحفوضة" وأنفلت بالبكاء. وكان هو يتضايق من بكائي ويخرج غاضباً مبربراً بالسباب علي وعلى أمي وعلى الساعة التي اجتمع فيها معها تحت هذا السقف الذي يدلف طوال الشتاء.   

قلت: معظم الآباء قلوبهم قاسية، على عكس الأمهات الحنونات.

ابتسم محمد علي وقال لي:

- كلهن حنونات عدا أمي، حينما كانت تغضب من أبي لا يبقى في قلبها شفقة أو رحمة أو حنان!

قلت: حقاً؟ كيف؟

قال: المفروض بها حينما كان أبي يخرج من البيت حرداً من بكائي أن تهرع إلي، وتفك حفوضتي، وتنظفني، ثم ترضعني حتى أسكت، ولكن الذي كان يحصل أنها كانت تصرخ في وجهي، وإذا فتحت فمي وقربته من ثديها لأرضع كانت تلطمني على فمي وتقول لي:

- لابق لك رضاعة وحليب أمهات يا ابن أحمد عبدو فريكة. تضرب في شكلك على شكل أبيك. سلالة عاطلة والسلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيرة مسلسلة- يتبع

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...