سلامات يا عمي الجاحظ

سلامات يا عمي الجاحظ

17 أكتوبر 2017
+ الخط -
ولدتَ يا عمي عَمْرو بن بحر الجاحظ في مدينة البصرة سنة 150، أو 159، أو 163 للهجرة، وهذا يعني أن المؤرخين، على أيامك، ما كانوا متفقين في الرأي، متحدين، متكاتفين من أجل (الحقيقة)، كما هو حالُ مؤرخينا اليوم! 

وعشتَ حتى سنة 255، أي أنك - بتعبير أهل المَدَر- عشتَ عمرَ النسر لتقابل الزينات.. ولئن عاشَ مَنْ كان معلماً، ناقداً، ألمعياً، لوذعياً، عبقرياً، مثلك ومثل شاعرنا سعيد عقل الذي تجاوز المئة سنة الآن، عمراً مديداً، فهذا، لعمري، أمرٌ يسرُّ الأصدقاء ويغيظُ الأعداء، ولكن المرءَ، يا معلمنا، لا يقضي العجب حينما يسمعُ أحدَ مواطنينا يقول للآخر: الله يطول عمرك.. طال عمرك.. يا طويل العمر.. وهو يعرف، حق المعرفة، أن عمر ذلك المدعو له، طال أم قصر، خِلْوٌ من أي إبداع، أو بيان، أو تبيين، أو مفهومية، بمعنى أنه، بتعبير المرحومة عمتي الحاجة عيوش: (طويلُ عُمْر.. قليلُ قَدْر)!

وعاصرتَ، كما يقول مؤرخوك، إثني عشر خليفةً، هم المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي بالله، وهذا يدل، مثلما يدل وجودُ النحل على وجود الرحيق والعسل، على أن حضرتك، وجنابك، ونيافتك، لم تذُق- مثلما ذقنا نحن جواحظَ القرنين الرابع عشر والخامس عشر للهجرة - حلاوةَ الخليفة / القائد، التاريخي، العبقري، المُلْهَم، الواحد، الأوحد، الذي لا يحول، ولا يزول، ولا يحل عن سمانا لا من تلقاء نفسه، ولا (بالعافية).. 

ولم ترَ، كان الله في عونك، جماهيرَ الدولة التي عشتَ فيها، وهم يَخرجون، أو يُخْرَجُون من بيوتهم، ويُجْبَرُونَ على السير الطويل في الشوارع والأزقة، بالقوة، وهم يصيحون (الله - الدولة - الخليفة فلان وبس).. ولو فرضنا أن الشعب قد ثار على الخليفة "الهادي"، مثلاً، لم ترَ البصاصين وهم يرفعون شعار (الهادي أو نحرق الجبل والوادي).. أو (الواثق.. أو نُشعلُ بالبلاد الحرائق)!..

كنتَ، يا عمي الجاحظ، مؤلفاً شجاعاً، حرّ النفس، عالي الهمة، لا ترضى بمائلة، ولا تسكت عن زاحلة، لا يُشَقُّ لك غبار، ولا يُصْلَى لك بنار، تردُّ الصاع على خصومك بصاعين، وإن هادنك الخصوم لا تهادنهم، بل تكرُّ عليهم، وتجندلهم بقلمك الفذ، حتى لقد كنت، ومعاصرُك ابن الرومي، الرائدين الأولين لما عُرف، بعد ما ينوف عن ألف سنة، بفن (الكاريكاتير).

ولأنك عظيمٌ، كبيرٌ، يا أستاذي الجاحظ، فقد التزمتَ جانب النقد والهجاء، ولم تلتزم جانب النفاق والمداهنة و(تمسيح الجوخ للحكام).. ومثلك عبقريُّنا أبي العلاء التنوخي المعري الذي جاء بعدك، وقال في لزومياته: 

وصفتُكَ، فابتهجتَ، وقلتَ خيراً

لتجزيَنـي، فأدركـني ابتهاجي 

إذا كان التقـارُض من  مُحالٍ

فأحسنُ من تمادُحِنا التهـاجي

لقد كانت رسالتك التي تحمل عنوان "التربيع والتدوير"، على ما يحسبُ الباحثُ، الأولى من نوعها، تاريخياً، في مجال الفكاهة و(التندر العلمي، الفني) إذا جازت التسمية. فأنت لم تشهر سلاح (الكاريكاتير) على خصمك أحمد بن عبد الوهاب، هكذا، من الباب إلى الطاقة، بل إنك طرحت عليه مئةَ مسألةٍ ومسألة، من طريف المسائل في سائر العلوم، من تراث الشعوب، إلى ما يشيع من الأساطير في معتقداتها، إلى ما يرد من النوادر في كتب الفلسفة، والموسيقى، والهندسة، والطب، ومختلف الفنون. وبما أنه لم يحسن الإجابة عنها، فقد هديتَه إلى مراجعة تلك المسائل في كتبك ورسائلك الكثيرة. 

جاء في رسالة التربيع والتدوير أن أحمد بن عبد الوهاب كان مفرط القصر، ويَدَّعي أنه مفرطُ الطول، وكان مربعاً، وتحسبُه، لسعة جفرته، واستفاضة خاصرته، مدوراً!! 

تقول كتبُ التاريخ أن مهجوَّك العتيد أحمد بن عبد الوهاب قد رد عليك، وحاول أن يكيل لك بصاعك، ولكنها، أي كتب التاريخ، أبت أن تحفظ كلامه ذي القوام الهزيل، المائع، وحتى الرسالة التي نسجها العبقري الرياضي أبو بكر الخوارزمي على منوال رسالتك، وخصصها للتندر على بديع الزمان الهمذاني، وعرفت بـ "رسالة الطول والعرض"، لم يولها التاريخ إلا نذراً يسيراً من الاهتمام، لأن الناس يهتمون بالأصل ولا يلتفتون إلى التقليد.. 

إن مأثرتك الكبرى، يا عمي أبا عثمان، هي أنك استطعت، بعبقرية نادرة، أن تترك ديوانَ العرب (الشعر) جانباً، وتُسْرِجَ حصاناً (قَلِقاً) من النثر، أصيلاً، وتمتطي صهوته، وتنطلق به وكأن الريح تحتك تحركُها يميناً أو شمالاً، كما قال المتنبي الذي أعاد للشعر ألقه.. 

ثمة، اليومَ، أنواع من النثر الأدبي، منها "النثر الجاحظي" الذي تحول إلى مدرسة فنية امتدت عبر العصور، حتى شرع النقاد والناسُ يمتدحون مَنْ كان تلميذاً بارعاً فيها فيسبغون عليه لقباً رائعاً هو (جاحظ القرن التاسع عشر) و(جاحظ القرن العشرين).. إلخ.. 

يقوم هذا النثر، برأي تلميذك الصغير كاتبِ هذه المألكة (الرسالة)، على دعائم ثلاث: الأولى ثقافة موسوعية نادرة، والثانية سهولة في الصياغة تشبه السهولة التي ينساب فيها الماءُ لحظة مغادرته الأرض عند النبع، والثالثة مقدرة استثنائية على بث ثقافة الكاتب المؤلف في الشخصيات التي يبتكرها بنفسه، حتى إنك، يا كبير، تستطيع أن تجعلهم يقرضون الشعر، مثلما فعلت مع ليلى الناعطية التي كانت ترقع القميص حتى تحتل الرقعُ مكان القماش، فجعلتَها تخاطب الأجيال القابلة من البخلاء بنصيحة شعرية خالدة إذ قالت:

    البسْ قميصَكَ ما اهتديتَ لجيبه     فإذا أضَلَّك جيبُهُ فاستبدِلِ

إن القسم الأكبر من كتابنا المعاصرين، يا عمي الجاحظ، يعتمدون في إبداعهم على قراءات متفرقة، ونثارات من واردات الأُذُن، ثم يجلسون في المقاهي ويتباهون و(يتمنفخون)، ويستعرضون ثقافاتهم أمام الآخرين.. وأما أنت فكنت، كما روي عنك، تقرأ أمهات الكتب، وتنقب في الدواوين، والرسائل، والأوراق، والقصاصات المكتوبة، ليل نهار،.. من هنا يمكننا أن نفهم التفاصيل الباهرة التي أوردتَها في قصة معاذة العنبرية التي أهْدِيَتْ إليها أضحية. فرأيتَها كئيبة حزينة مفكرة مُطرقة، فقلتُ لها: ما لك يا مُعاذة؟ قالت لك: أنا امرأة أرملة وليس لي قَيِّم، ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي، وقد خفتُ أن يضيعَ بعضُ هذه الشاة، ولستُ أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها. وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئاً لا منفعة فيه. 

أما القَرْنُ فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل منه كالخطاف، ويستمر في جذع من أجذاع السقف، فيعلق عليه الزبُل والكيـران، وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير وبنات وردان والحيات. وأما المصران فإنه لأوتار المندفة، وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة. وأما قحفُ الرأس واللحيان وسائر العظام فسبيله أن يكسر بعد أن يُرَقَّ، ثم يُطبخ، فيما ارتفع من الدسم كان للمصباح، وللإدام، وللعصيدة، ثم تؤخذُ تلك العظام فيوقَدُ بها، فلم ير الناس وقوداً قط أصفى ولا أحسن لهباً منه. وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القدر، لقلة ما يخالطها من الدخان. وأما الإهاب فالجلد نفسه جراب، وللصوف وجوه لا تعد. وأما الفرث والبعر فحطبٌ إذا جفف عجيب. 

ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاعُ بالدم. وقد علمت أن الله -عز وجل- لم يُحَرِّمْ من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له موضعاً يجوز فيها ولا يمنع منها، وإن أنا لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به، صار كَيَّة في قلبي، وقذى في عيني. 

وحينما التقيتَها، بعد أيام، كان وجهها طلقاً مبتسماً، فقلت لها: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم! قالت: أجل تذكرتُ أن عندي قدوراً شامية جُدُداً. وقد زعموا أنه ليس شيء أدبغ ولا أزيد في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدسم. وقد استرحت الآن، إذ وقع كل شيء موقعه. 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...