هل جننت أم كان عقلي يخضّ؟

هل جننت أم كان عقلي يخضّ؟

03 اغسطس 2022
+ الخط -

بدا صديقي "أبو صالح"، في هذه المكالمة، مسروراً، مندفعاً، يحكي، ويضحك، ويذكر لي أسماء مجانين مشهورين عندنا في البلدة، وألقابَهم. ويعدني بأن يحكي لي بعض فصولهم إذا وجدنا وقتاً لذلك.

سألته عن مناسبة هذا الكلام، فذكر لي أنه قرأ زاويتي الأخيرة في صحيفة "العربي الجديد" (31 يوليو 2022)، وعنوانها "جولة في ربوع العصفورية"، وسرعان ما تواردت إلى ذهنه قصص وأفكار وذكريات لها علاقة بالمجانين.. وشرع يغني، بمرح شديد:

قالوا جننتَ بمن تهوى فقلتُ لهم

ما لذةُ العيش إلا للمجانينِ

وعندما انتهى من الغناء، قال:

- طبعاً عيش المجانين لذيذ، لا توجد فيه مسؤوليات، و(التطنيش) عندهم سيد الموقف. أريد أن أقول لك يا أبو مرداس فكرة، وأرجو أن تتحملني.

- تفضل.

- أنا صار عمري 53 سنة، وهذه أول مرة أعرف فيها أن "العصفورية" منطقة في لبنان، قريبة من بلدة الحازمية، كما جاء في مقالتك. كنت أظن أن العصفورية حملت هذا الاسم لأن المجانين يتكلمون بلغة غريبة أطلق عليها الناسُ اسم (اللغة العصفورية). وبالمناسبة، كان عندنا في بلدة معرة مصرين مجموعة أصدقاء (شلة)، كانوا يتحدثون بلغة لا يمكن أن يفهمها غيرهم. وأنا ذات مرة طلبت من أحدهم، وهو الفنان الرائع أبو الريم، رحمه الله، أن يعلمني (أبجدية) هذه اللغة، فعلمني طريقة التحدث بهذه اللغة، وأعطاني بعض الأمثلة، ولكنني لم أحفظ سوى جملة واحدة هي: جَنَا بالأنا، جدّي بالبدّي، جوح بالروح. وتعني حرفياً (أنا بدي أروح). 

- جميل. على كل حال يا صديقي أبو صالح، أريد منك الآن أن تتوقف عن قول كل الأشياء التي تريدها دفعة واحدة، حتى نستطيع أنا وأنت أن نرتب أفكارنا، ونعرضها بشكل واضح. أولاً؛ معنى لفظة "عصفورية" كان، وما يزال مرتبطاً باسم مشفى المجانين، والناس يتداولون الكلمة دون أن يفكروا بمصدرها، وأصلها. والحقيقة أن اسم منطقة العصفورية مشتق من أصوات العصافير، هذا ما جاء في المقالة المنشورة في صحيفة "النهار" اللبنانية 13 سبتمبر 2018، فهي مشجرة بكثافة، والعصافير تعشش فيها، وتزقزق بلا توقف.

- رائع.

ثانياً؛ أنشئ مشفى الأمراض العصبية والعقلية الذي حمل اسم عصفورية، في سنة 1890، أي أن لبنان كان يومئذ تحت الحكم العثماني. وهنا يمكن أن نخرج باستنتاج غريب، وهو أن الدولة العثمانية كانت تهتم بهذه الأمراض، في حين أن الطب بشكل عام كان متأخراً.

ثالثاً، المجتمعات العربية عموماً لا تهتم بهذه الأمراض، وما أعرفه حق المعرفة أن المجنون في مجتمعاتنا يتركه أهله سارحاً في أزقة البلدة وشوارعها وعلى البيادر، ولا يرسلونه إلى مشفى الأمراض العقلية، وكل واحد يقول عن ابنه: هذا ابني، مصيبتي، فهل يعطي الإنسان مصيبته للآخرين؟ وإذا كان المجنون امرأة فرابع المستحيلات أن يوافق أهلها على إرسالها إلى العصفورية، فهي تمثل ما يسمونه (العِرض)، والعرض غالٍ. وبالمناسبة، أنا زرت مشفى المجانين في منطقة دويرينة بحلب، برفقة الفنان المرحوم عمر حجو، سنة 2006، ومن جملة ما عرفت، يومئذ، أن جناح النساء فيه مجنونات خطيرات جداً، والسبب أن الأهل لا يرسلون ابنتهم إلى المشفى إلا إذا أصبحت حالتها خطيرة جداً، يعني أنهم ما عادوا قادرين على احتمالها.

رابعاً، أهل الشام القدماء كانوا يسمون مشفى الأمراض العقلية "البيمارستان"، التي جرى تحويرها مع الزمن لتصبح "مرستان". وفي دمشق كان السؤال عن مكان المرستان يصاغ كما يلي:

- دخلك، عصفورية الشام وين؟ 

فيرد عليك: قصدك المرستان؟ موجود في القصير.

وإذا لاحظ أهل دمشق على أحد الشبان وجود خلل عقلي يقولون: إلى القصير بلا تردد.

- رويدك أبو مرداس. القصير في دمشق، أم في حمص؟

- توجد في دمشق منطقة اسمها القصير، وهي غير قصير حمص، ولا علاقة لها بقصير أنطاكية. وفي حلب أقيم مشفى الأمراض العقلية بالقرب من قرية دويرينه، وعُرف باسمها، فإذا جن شخص في مناطقنا كان يقال:

- أخذوه إلى الدويرينة.

وفي مصر كان يطلق على مشفى الأمراض العقلية اسم "السرايا الصفر"، والسبب أن مستشفى العباسية الذي كان يؤوي المجانين، قد عتق، وتهدم، فنُقل المجانين إلى مكان مؤقت، حتى انتهت ورشات العمل من ترميمه، ثم دهنوه باللون الأصفر، وفي العراق عرف هذه النوع من المشافي باسم "الشماعية". هل تعرف لماذا؟ لأن الذين يصابون بلوثات عقلية كان يقال عنهم "مخهم مُشمع"، وهناك احتمال آخر، وهو أن من يغادر أي مكان يقال عنه في الحكايات (شمع الخيط)..

- معلومات غريبة.

- نعم. وفي إسطنبول يقع مشفى المجانين في منطقة بكركوي، وقد ورد هذا المصطلح، على ما أذكر في إحدى قصص عزيز نيسين، ترجمة المرحوم عبد القادر عبداللي، ومؤخراً أطلعني محمد خير ابن عبد القادر عبدللي على رواية مخطوطة قام بترجمتها عنوانها "إذا خسر الملك"، كتبتها عالمةُ النفس الشهيرة غول سيران، وفيها أن بطل الرواية كان من الممكن أن يذهب إلى بكركوي.

قال أبو صالح وهو يضحك: بالفعل، مثلما يقول المثل (الجنون فنون والهبال أشكال).

- سأحكي لك، في خاتمة هذا الحديث، عن أحد أفانين الجنون، كنتُ أنا بطلها.

- كيف كنتَ بطلها؟ أنت، ما شاء الله عليك، جبل عقل.

- عندنا، في معرة مصرين، كما تعلم، اصطلاحات عديدة تدل على الجنون، منها: طق عقله، انضربوا في رأسه الفيوزات، ما في بالعلبة ولا بسمار، مأجر الطابق الفوقاني، بايعها، صايح، سايح، عقله جوزتان في خرج، عقله يخضّ. صحيح؟

- مئة بالمئة.

- كان في معرة مصرين شاب عاقل جداً، لنفرض أن اسمه (فلان)، ذهب إلى الخدمة العسكرية، ولا ندري ماذا جرى له هناك، لأنه عاد بحالة عقلية يرثى لها. وصار أهل البلدة يقولون: هذا فلان عقله يخضّ. وفلان هذا كان صديقي من الطفولة، وبقيت صداقتنا مستمرة، لم يؤثر عليها كون عقله يخضّ. وذات مرة شعرت أن حرارة محرك سيارتي قد ارتفع، وقدرتُ أن الماء الموجود في المبرد قد نفد، ويجب علي أن أعوضه. لمحت فلاناً واقفاً أمام باب الجامع الكبير. سلمت عليه، وشرحت له المشكلة، وطلبت منه أن يأتيني بأبريق مليء بالماء من الجامع، لكي نسكبها في المبرد، فلبى طلبي بسرعة. المهم. فتحنا غطاء المحرك. وكانت المفاجأة أن المبرد مليء بالماء. هنا ضحك صديقي فلان، وقال لي:

- أشو قصتك يا أبو مرداس؟ الظاهر أن عقلك يخضّ؟!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...