ملف| في حق المقاومة وحدود هذا الحق (14)

ملف| في حق المقاومة وحدود هذا الحق (14)

13 يناير 2024
+ الخط -

من حيث المبدأ، مقاومة الاحتلال حق مشروعٌ، وفقًا للقوانين والمواثيق الدولية، ووفقًا لأي رؤيةٍ أو منظومةٍ أخلاقيةٍ معقولةٍ ومستندةٍ إلى أي منظومةٍ منصفةٍ لحقوق الإنسان. لكن الصيغة التي تتخذها هذه المقاومة يمكن أن تؤثر، إيجابًا أو سلبًا، في أحقية هذا الحق، وفي التفاعل مع تلك المقاومة ومع ذلك الحق.

وبهذا المعنى كتبت سابقًا: "الحق يُبنى وليس (مجرد) معطى".  لهذا، لا ينبغي الركون إلى هذا الحق المجرَّد. فلكي يبقى أو يصير الحق حقًا، ينبغي تجسيده بطرقٍ تؤكد تلك الأحقية والمشروعية، ولا تتعارض أو تتناقض مع حقوقٍ وقيمٍ أخرى ينبغي أخذها في الحسبان. فعلى العكس من المزاعم الإسرائيلية و"الغربية" الزائفة عن "حق إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها"، كلّ حقٍّ محدودٌ بحقوقٍ وقيمٍ أخرى ينبغي له احترامها، وإلا فقد مقوّمات أحقيته ومشروعيته.

وفي الحديث عن المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، المتمثلة بحماس، ثمّة انتقاداتٌ كثيرةٌ تُوجَّه إلى حماس، وتُشكِّك في أحقية الصيغة التي تقدمها لمقاومة الاحتلال، ومشروعية أو معقولية هذه المقاومة. وسأناقش، في ما يأتي، بإيجازٍ شديدٍ، ثلاثةً من الانتقادات غير المحقة، من وجهة نظري، الموجهة للمقاومة الفلسطينية المسلحة للاحتلال الإسرائيلي، عمومًا، ولحركة حماس خصوصًا، ومن ثم أناقش، بالإيجاز ذاته، ثلاثة انتقاداتٍ أرى أنها مهمةٌ ومحقةٌ، جزئيًّا على الأقل، في هذا الخصوص.

فمن جهةٍ أولى، نجد الانتقادات التي تنكر الحق المبدئي للشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، عمومًا. وتستند بعض هذه الانتقادات إلى ما يمكن تسميته "الواقعية الانبطاحية" التي ترى وجوب التسليم بالأمر الواقع المتمثل بالاحتلال، والخضوع لموازين القوى التي تميل لصالح ذلك الاحتلال بقوةٍ، والتخلّي عن "وهم" قيام دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ وما يتطلبه أو يعنيه ذلك من التخلص من الاحتلال الإسرائيلي. وهناك انتقادات أخرى من هذا النوع تقرّ، شكليًّا، بالحق المبدئي للفلسطينيين، في مقاومة الاحتلال، لكنها تدين عمليًّا كلّ شكلٍ من أشكال هذه المقاومة. ولعلّ السياسة الألمانية الرسمية خير/ شر تمثيلٍ لهذا الاتجاه، حيث إنّ تلك السياسة لا تدين المقاومة المسلحة بحجة الإرهاب وضرورة نبذ العنف فقط، بل تقف أيضًا موقفًا سلبيًّا حتى من المظاهرات المناهضة لإسرائيل، وتسعى لتجريمٍ قانونيٍّ لحركة المقاطعة السلمية العالمية لإسرائيل!

هناك انتقادات تقر، شكليًّا، بالحق المبدئي للفلسطينيين، في مقاومة الاحتلال، لكنها تدين عمليًّا كلّ شكلٍ من أشكال هذه المقاومة

 ومن جهةٍ ثانيةٍ، ثمّة انتقاداتٌ موّجهةٌ، خصوصًا، إلى المقاومة العنيفة والمسلحة للاحتلال الإسرائيلي. وإضافةً إلى تبني موقف "الواقعية الانبطاحية" في تشخيص مسألة التفاوت الهائل في القوة المادية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، تستند تلك الانتقادات، أحيانًا، إلى اعتقادٍ ساذجٍ بأنّ المقاومة الفلسطينية السلمية يمكن أن تكفي للتخلص من الاحتلال الإسرائيلي، مع أنّ التاريخ يبيِّن أنّ التخلص من أيّ احتلال أو استعمار استيطاني حصل، دائمًا (تقريبًا)، بالإرغام والإكراه، لدرجةٍ أو لأخرى، وليس بمجرّد المفاوضات السلمية، مع العلم أنّ إسرائيل ترفض حتى التفاوض السلمي على إيجاد حلٍّ للقضية الفلسطينية، وتتجاهل أو تقطع أي يدٍ ممدودةٍ لها من أجل السلام العادل.

ومن جهةٍ ثالثةٍ، ثمّة انتقاداتٌ، غير محقةٍ أيضًا، تنطلق من الانقسام الأيديولوجي بين العلمانويين والإسلامويين، وتنكر أحقية المقاومة لمجرّد كونها إسلاميةً أو ذات أساسٍ دينيٍّ. وتنطلق هذه الانتقادات من رؤيةٍ بالغة السلبية إلى الدين، وترى أنّ الصبغة الدينية/ الإسلامية للمقاومة تفقدها وطنيتها ومشروعيتها أيضًا. وتتجاهل هذه الانتقادات الدور الإيجابي الذي لعبه ويمكن للدين أن يلعبه في حياة الشعوب وكفاحه من أجل نيل حقوقه. فقد أدى الدين، منذ نشأته، وحتى الوقت الراهن أدوارًا بالغة التقدمية، في هذا الخصوص.

فماهية الدين ليست جوهرًا ثابتًا، بل هي رؤيةٌ أو مادةٌ خامٌ أوليةٌ يمكن تأويلها وتوظيفها بطرقٍ متعدّدةٍ ولأهدافٍ متنوعةٍ ومتناقضةٍ. بحيث يمكن أن تكون مصدرًا من أرقى مصادر الاخلاق الإنسانية ومحرّكًا قويًّا لأفعالٍ إنسانيةٍ بالغة الإيجابية، من ناحيةٍ، وأساسًا لأحطّ صيغ الأخلاق وأكثرها قبحًا وإجرامًا، من ناحيةٍ أخرى. فالدين، بوصفه دين المتدينين، ليس "رجعيًّا" بالضرورة، والإسلام، بوصفه إسلام المسلمين، ليس داعشيًّا بالضرورة.

كذلك ينبغي الإشارة في هذا السياق، إلى أنّ الصهيونية قامت بتوظيف الدين اليهودي لتحقيق أهدافها، على الرغم من كونها حركةً علمانيةً أو غير دينيةٍ. في المقابل، ينبغي التشديد على ضرورة عدم اتخاذ إسرائيل نموذجًا يحتذى في هذا الخصوص، فقد أظهرت التطورات السياسية الأخيرة انقسامًا علمانيًّا دينيًّا في إسرائيل سبّب شروخًا عميقةً في السياسة والدولة والمجتمع أيضًا. ومؤسفٌ ومضرٌّ أن يكون هذا هو الحال "لدينا" أيضًا، أحيانًا.

الدين، بوصفه دين المتدينين، ليس "رجعيًّا" بالضرورة، والإسلام، بوصفه إسلام المسلمين، ليس داعشيًّا بالضرورة

في الحديث عن الانتقادات التي تبدو محقةً، لدرجةٍ أو لأخرى، يمكن الإشارة إلى ثلاثة انتقاداتٍ رئيسةٍ: أولها يتعلق بعلاقة المقاومة مع الدول والمنظمات الخارجية؛ وثانيها يتعلق بعلاقة المقاومة مع الشعب الإسرائيلي عمومًا، ومدنييه خصوصًا أو تحديدًا؛ وثالثها يتعلّق بعلاقة المقاومة مع الشعب الفلسطيني ذاته، ومع بقية القوى والأطراف الفلسطينية عمومًا.

فمن ناحيةٍ أولى، أدى ارتباط حماس ببعض الأنظمة الاستبدادية والمنظمات العسكرية و/ أو السياسية إلى التشكيك في الأسس الأخلاقية المبدئية والحصافة السياسية البراغماتية للمقاومة. ولم يقتصر الأمر على تلقي الدعم من هذا الطرف "المشبوه أو المدان" أو ذاك، بل بدا الأمر، أحيانًا، أشبه بتحالف استراتيجيٍّ عضويٍّ مع أطرافٍ وأفرادٍ مشهودٍ لهم بالاستبداد والإجرام بحق شعوبهم أو بحق شعوبٍ أخرى. وربّما كانت علاقة حماس بالنظام الإيراني عمومًا، وبما يسمّى "فيلق القدس" وقائده السابق قاسم سليماني، أبرز نموذج لذلك الارتباط السلبي للمقاومة مع الأنظمة أو الأطراف الخارجية. فالنظام الإيراني نظامٌ استبداديٌّ، وله مصالح وأجندةٌ تتناقض، لا مع مصالح شعبه وحرياته وحقوقه فحسب، بل مع مصالح عددٍ من الشعوب والدول العربية أيضًا. فعلى سبيل المثال، النظام الإيراني بمليشياته، وفيلق قدسه، وقائد ذلك الفيلق، كان حليفًا وشريكًا أساسيًّا للنظام السوري في الجرائم التي اقترفت بحق الشعب السوري الثائر منذ حريته. ولم تبدِ حماس أي اكتراثٍ أو حساسيةٍ أخلاقيةٍ حين قامت بوضع صور قاسم سليماني في قطاع غزّة وإقامة مراسم العزاء بعد مقتله وإحياء ذكرى مقتله أكثر مرّة، مع معرفتها بدوره السلبي والإجرامي الكبير تجاه قضية الشعب السوري في كفاحه ضد الاستبداد، التي لا تقلّ أخلاقيةً وأهمية عن قضية الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد الاحتلال.

ولعلّ من المفيد الإشارة إلى أنّ هناك فلسطينيين كثرًا قد احتجوا على هذا التحالف مع إيران وهذا التمجيد لسليماني، وهناك من أحرق صور سليماني في غزّة، تمامًا كما فعل إيرانيون محتجون على استبداد النظام الإيراني، في إيران ذاتها.

هناك من يبرّر لحماس تحالفها مع مثل هذه الأطراف والجهات بالحاجة والضرورة أو الاضطرار؛ لكن لهذا التبرير حدودٌ، ولذلك الاضطرار ثمنٌ. ويتمثل هذا الثمن بالمسّ بالأسس الأخلاقية والسياسية لمقاومة حماس. ومن منظور كثيرين، يبدو الثمن المدفوع أكثر فداحةً وسلبيةً، ويفوق أهميةً وتأثيرًا كلّ الإيجابيات الناتجة من تلك العلاقة مع أنظمةٍ وأفرادٍ ذات أيدٍ مغطسةٍ بدماء الأبرياء.

وبدلًا من القول "لا صوت يعلو صوت المعركة"، ينبغي القول: ثمة أصواتٌ كثيرةٌ تستحق أن تكون موجودةً مع صوت المعركة، وأثناء كلّ معركةٍ، وقبلها، وبعدها، أيضًا

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، ثمّة انتقاداتٌ كثيرةٌ وقويةٌ وُجِّهت لحماس، من المنظمات الحقوقية ودول العالم الغربي خصوصًا، وحتى من أطراف ٍ كثيرةٍ في العالم العربي، بسبب استهدافها المدنيين الإسرائيليين سابقًا، وقيامها بقتل و/ أو خطف مدنيين أو أطفالٍ وكبارٍ في السن خلال عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. ورأى كثيرون أنّ الأمر مدانٌ من الناحية الأخلاقية المبدئية، وأنّ مقاومة الاحتلال لا تعطي شيكًا على بياضٍ، لاستهداف الأطفال والمدنيين والعجائز أو خطفهم، وأنّ وحشية الاحتلال الإسرائيلي ليست مبرّرًا للقيام بمثل هذه الأعمال اللاأخلاقية. وشدَّد آخرون على أنّ استهداف المدنيين أو خطفهم ليس سيئًا أو مرفوضًا من الناحية الأخلاقية فحسب، بل من الناحية البراغماتية السياسية أيضًا. فقد استغل الإسرائيليون وحلفاؤهم ("الغربيون") هذا الأمر أبشع وأشنع استغلالٍ، فبدت إسرائيل في موقع الضحية التي يحق لها أن تدافع عن المدنيين الأبرياء من أطفالٍ وكبارٍ في السن، وهُمِّشَت مسألة مقتل وخطف مئاتٍ من جنود الاحتلال الإسرائيلي. ولو اقتصرت حماس على استهداف الجنود الإسرائيليين في هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، لكان ذلك أفضل لها بكثيرٍ، من كلّ النواحي الأخلاقية المبدئية والبراغماتية السياسية والعسكرية.

ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، يشكّك كثيرون في تمثيلية حماس السياسية للشعب الفلسطيني عمومًا، وحتى لفلسطينيي قطاع غزّة الذي كانت حماس تسيطر عليه وتحكمه. فسلطة حماس في قطاع غزة هي سلطة الأمر الواقع، وليست سلطةً ديمقراطيةً منتخبةً، وهي تجسيدٌ لحالة الانقسام السياسي الفلسطيني، وفكّ الارتباط المشؤوم مع الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية الحاكمة هناك. والنضال الفلسطيني من أجل نيل حق تقرير المصير يعني أنّ الفلسطينيين بحاجةٍ إلى التخلّص من ذلك الاحتلال، ومن كلٍّ تدخلٍ أجنبيٍّ لا يرتضونه في شؤونهم، من جهةٍ، وإلى التعبير عن أنفسهم ديمقراطيًّا من خلال انتخاباتٍ حرةٍ وفي بيئةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ مناسبةٍ. وفي ظلّ وجود سلطةٍ ديمقراطيةٍ وأجواءٍ حرة يمكن للفلسطينيين أن يقرّروا أشكال المقاومة وصيغها واستراتيجياتها وتكتيكاتها، بحيث تكون تلك المقاومة ممثلةً بالفعل للشعب الفلسطيني ومعبرةً عن اختياره الحر. كذلك يمكن للفلسطينيين، في ظلّ وجود السلطة والبيئة الديمقراطية، التخلّص من القيود المحلية الموضوعة، ليس على حرياتهم السياسية فحسب، بل على حرياتهم الاجتماعية أيضًا.

مستقبل القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي وما يرافقه من استيطانٍ وقمعٍ وإجرامٍ، يعتمد، جزئيًّا على الأقل، على تعزيز الإيجابيات المذكورة والموجودة عمومًا، ومعالجة السلبيات عمومًا، وتلك المشار إليها خصوصًا. وبدلًا من القول: "لا صوت يعلو صوت المعركة"، ينبغي القول: ثمة أصواتٌ كثيرةٌ تستحق أن تكون موجودةً مع صوت المعركة، وفي أثناء كلّ معركةٍ، وقبلها، وبعدها، أيضًا.

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد
النصّ مشاركة في ملف| غزّة لحظة عالمية كاشفة، شارك معنا: www.alaraby.co.uk/blogsterms
حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".