مأزق الدولار

مأزق الدولار

15 ابريل 2023
+ الخط -

تاريخياً، عرف الغرب ست عملات احتياطية خلال الخمسة قرون الماضية أصدرتها كل من البرتغال، إسبانيا، هولندا، فرنسا، بريطانيا و أخيراً أميركا، و يبدو أن هناك وجهة نظر بدأت تتبلور، حسب بعض المحللين الاقتصاديين، ترى أن التاريخ يشير إلى كون الدولار يعيش في الوقت بدل الضائع.. لماذا؟

لأنه مهما كانت نتائج الحرب في أوكرانيا فإن الاقتصاد الروسي سيتجه حتماً إلى الشرق، بعد كل ما حصل من أوروبا. فروسيا لا تملك فقط مصادر طاقة هائلة، بل إن جغرافيتها الضخمة تؤهلها لكي تلعب دوراً وسيطياً يربط ما بين الصين والهند وأوروبا، وبالتالي سيجد العالم نفسه أمام منطقة "اقتصاد أوراسي"، يقول عنها المختصون إنها تجاوزت لحدود الآن أكثر من تسعين دولة وتتألف من حوالي خمسة مليارات نسمة، تتاجر مع بعضها البعض ولن تكون في المستقبل بحاجة للاعتماد على الدولار.

ومن هنا نفهم الإصرار الأميركي، بل وإجماع آخر أربعة رؤساء أميركيين، رغم كل اختلافاتهم السياسية، على نسف شبكة أنابيب "نورد ستريم" الطاقية، لأن روسيا تمكنت، منذ التسعينيات، وبالتعاون مع أوروبا، من بناء أكبر مشروع بنية تحتية طاقية في العالم، جعلت من أوروبا الشريك التجاري الأول لروسيا، وكان هناك تخوف أميركي من أن تتطور الأحداث إلى دفع أوروبا إلى تسديد فاتورة الطاقة بغير الدولار، وهو ما بدأنا نشاهد بعض ملامحه في الحرب الجارية حاليا، الشيء الذي جعل جوهر السياسة الأميركية يهدف إلى إبقاء أوروبا داخل معسكر الدولار، ومواجهة أي محاولة لنزع "الدولرة" في التجارة الدولية خاصة في قطاع الغاز والنفط، أي الحفاظ على نظام "البترودولار" الذي يربط سعر النفط بالدولار الأميركي (خطة نيكسون-كيسنجر)، وهو ما كرّس هيمنته حينها على العالم بعد انهيار اتفاق "بريتون وودز"، الذي كان يربط عملات العالم بالدولار والأخير بالذهب. فقدت إذن العملة "الخضراء" التغطية "الصفراء"، ثم ما لبثت أن استعاضت عنها بالذهب الأسود، لكن التاريخ لم ينته هنا، فالحرب الروسية - الأوكرانية أبانت عن ثغرة أخرى في بنية النظام المالي العالمي.

 في مواجهة العقوبات ومنعها من الولوج إلى نظام "سويفت"، قرّرت روسيا في بداية الحرب إرساء معادلة جديدة: "كل الدول غير الصديقة عليها أن تدفع بالروبل مقابل الغاز والنفط الروسي

ففي مواجهة العقوبات ومنعها من الولوج إلى نظام "سويفت"، قرّرت روسيا في بداية الحرب إرساء معادلة جديدة: "كل الدول غير الصديقة عليها أن تدفع بالروبل مقابل الغاز والنفط الروسي"، وبما أن روسيا هي أكبر مصدّر للغاز وثالث أكبر مصدّر للنفط في العالم، يمكن القول إن هذا الأمر سينعكس، عاجلا أم آجلا، على نظام البترودولار، إذ يبدو لحد الآن أن روسيا كانت جاهزة لمواجهة هيمنة الدولار تجنباً للعقوبات الأميركية، فعندما قرّرت الانخراط في هذه المعركة استعدت اقتصاديا ونقديا لذلك، وبالطبع فإن هذه الخطوة ليست كافية لإسقاط البترودولار، بل يتعلق الأمر بمدى قدرة روسيا على توسيع حصّتها السوقية العالمية والحفاظ عليها، فالمواجهة مع الروس دفعت العديد من الدول إلى الخوف من سلاح الدولرة والتفكير في التخلّي عن الهيمنة الأحادية للدولار، ومن هنا يطرح السؤال الاكثر أهمية: ماذا يمكن أن يحدث مثلا لو قررت الصين في المستقبل، القريب أو البعيد، أنها لن تدفع ثمن النفط، وهي أكبر مستهلك له في العالم، إلا باليوان الصيني؟ فهل سيتمكن نظام "البترودولار" من تحمل هذه الضربة الإضافية؟

إذا تحقّقت هذه الفرضية فسيكون ذلك بمثابة ضربة مزلزلة عالمية للعملة الأميركية، فمعظم الطلب على الدولار اليوم مرتبط بحاجة الدول إليه لاستيراد النفط، لكن ماذا يحدث إذا توقّف هذا الطلب؟ ببساطة يعني انخفاض قيمته مقابل العملات الأخرى، وهذا ما تحاول أميركا بكل ما في وسعها لتفاديه، ومن هنا يمكن فهم إحدى خلفيات استماتتها في دعم الحرب في أوكرانيا والإصرار على  حجب الطاقة الروسية عن أوروبا، وهذا ما يبدو أنها في الطريق للحصول عليه بسبب تماسك الموقف الأوروبي الحالي، لكن الموقف الفرنسي الأخير الذي اقترح "عقيدة اقتصادية جديدة للاتحاد الأوروبي.. وتقليل أوروبا من اعتمادها على الدولار خارج الحدود الإقليمية" (مقابلة "ماكرون" مع وسائل إعلام من بينها صحيفة "لزيكو" الفرنسية التي نشرتها يوم الأحد 9 إبريل 2023).

هذه الإشارة الفرنسية قد تفتح باباً جديداً يشجع على الاستمرار في معركة خفض نسبة "الدولرة" العالمية (حوالي سبعين في المائة من سكان العالم مازالوا يستخدمون حاليا الدولار في تعاملاتهم التجارية).. المعركة إذن ما زالت مستمرة ونظام البترودولار ما زال يدافع عن نفسه، لكن الدولار لم يخرج بعد من مأزقه.

حسن زهير
حسن زهير
كاتب وباحث من المغرب؛ أستاذ مادة الفلسفة، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في شعبة الفلسفة، تخصص "فضاءات الفكر في الحضارة العربية الإسلامية" من جامعة محمد الخامس بالرباط. كاتب مقالات حول علاقة الفكر بالسياسة، والثقافة بالمجتمع. يعرّف عن نفسه بالقول "قوى التطور دائما غالبة مادام في الإنسان حب الحياة!".